الأحد، 11 أبريل 2010

على طريق

نهضة الأمة

من منظور كلي

* بسم الله الرحمن الرحيم "

" سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، انك أنت العليم الحكيم"

"قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"

مقدمــــة

أماني وأحلام وتساؤلات :

يندر منه من لم تراوده أمنيات جميلة عالية لدرجة توصف بالأحلام تتعلق بحياته ومستقبله، من مال وجاه وسلطان وزوجه وأولاد .. الجميع يحلم ويتمنى، ولكن قدر أقل هو الذي يسعى لتحقيق تلك الأماني والأحلام .. وهؤلاء هم الذين يحققون الإنجازات وتكون لهم القيمة والمكانة في مجتمعاتهم . ولكن كم منا راودته هذه الأماني والأحلام فيما يتعلق بوطنه أو أمته (مصر مثلا أو الأمة العربية أو الأمة الإسلامية ؟) كأن يحلم مثلا أن تكون بله أو وطنه (مصر) أو أمته أمة عظيمة اقتصاديا وتقنيا وعسكريا وثقافيا (أو حضاريا) وتكون لها مكانة دولية رائدة، مثل تلك الأمم التي تتحكم في مصير العالم ؟ ربما هناك الكثير ممن راودتهم تلك الأحلام .. ولكن كم منهم اهتم حقيقة بالمساهمة في تحقيق تلك الأحلام .؟

الانتماء والولاء القومي :

إن الاهتمام الحقيقي يعنى الانشغال بها والتفكير فيها والإحساس بالمشكلات التي يعانى منها أهلها كأنها مشاكله الخاصة، يعنى حمل الهم والتألم الفعلي لما يصيبها من سوء، والسعادة والفرح بكل ما هو خير لها، يعنى العمل الفعلي الايجابي على تحسين أحوالها لا هدمها، يعنى الاستعداد للتضحية في سبيل مصلحتها .. هذا الاهتمام هو مضمون ما يعرف بالولاء والانتماء القومي .. وللذين لا تراودهم الأماني والأحلام لأوطانهم وأممهم أقول :

إن من لا يهتم بأحوال بلده أو أمته لا يحق له الانتساب إليها أو العيش على أرضها، ولا يفي بمتطلبات الانتساب إلى الإسلام ..

لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "

وقيل أيضا إن حب الأوطان من الإيمان, بل إن من لا يهتم بأمر وأحوال بلده لا يعي مصلحة نفسه.. لأن كل ما يحيق بالأمة من خير أو شر لابد أن ينعكس في النهاية على كل أهلها .. ولكن قصر النظر فقط هو الذي يحجب هذه الحقيقة عن عقول (أو قلوب ) الكثير منا .. ولعل أمانة العرض(1) تقتضى أن نقر بأن الانتماء والولاء القومي هما قيمة إنسانية اجتماعية توجد في نفوس الأفراد بدرجات مختلفة، والأهم من ذلك فان تلك القيمة ليست كما ثابتا، فهي تزيد وتنقص في نفس الفرد الواحد، من وقت إلى آخر وتبعا للظروف المحيطـة،

ــــــــــ

(1) لكي لا تتجاوز حدود العدل في الحكم على أولئك الذين يفتقرون إلى تلك القيمة .

كما أن تأثير تلك الظروف أو العوامل المحيطة تتفاوت في تأثيراتها من إلى آخر، وذلك تبعا لقوة تلك القيمة في نفس الفرد أصلا .. فمن الأفراد من يكفر ببلده وأمته ألا وهى الأسباب، ومنهم على النقيض الآخر( أو الطرف الآخر) من لا ينقص من انتمائه وولائه لبلده وأمته أي عوامل أو تضحيات أو معاناه، لأنه يحس ويدرك أن وجوده هو ذاته هو في كيان أمته، وأن الأمة ليست ملكا لأحد وليست هي النظام والحاكم ولا هي أي فرد آخر فان أصاب الفرد سوء أو معاناة من فرد أو مجموعة أو قوانين أو لوائح .. فان كل هؤلاء ليسوا بخالدين ولا باقين إلى الأبد .. وأن الباقي (بعد الله) هو الوطن ..

إن الكثيرين لا يدكون قيمة الأوطان التي ينتمون إليها ..لأنه من طبيعة الأمور أن الإنسان لا يشعر بقيمة ما لديه إلا بعد أن يفقده أو أن يشرف على فقده . ولا إدراك قيمة الأوطان التي نعيش فيها ولا ندرك قيمتها ولا يهتم بالمحافظة عليها وتحسينها لندرس نشأة إسرائيل .. أربعين سنة من الإعداد والتخطيط والتضحيات لإقامة وطن لهم ولندرس مقاومة الفلسطينيين للمحافظة على وطنهم وعدم القبول بالتوطين أو الهجرة إلى أماكن أخرى ..لماذا ؟ لأنهم أدركوا قيمة الوطن بعد فقده . ربما في البداية لم يتوافر لديهم هذا القدر من الإدراك .. لذلك فقدوه .. ولنتدبر أحوال الجاليات العربية والإسلامية في أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر الكثير منهم ولد في أمريكا وحصلوا على الجنسية .. ولكن الوطن الحقيقي .. هو الأصل.. الجذور .

إلا أنه من الناحية الأخرى لا يمكن إنكار آثار العوامل التي تؤثر على انتماء الفرد وولائه القومي، ولا بد من دراستها لكي يتسنى العمل على تحسينها إيجابيا(1) ومن هذه العوامل (على سبيل المثال لا الحصر، وعلى سبيل التعريف الموجز وليست الدراسة التفصيلية) :

1- الغفلة وعدم الإدراك بسبب الانشغال بأمور ومعاناة الحياة اليومية أو الملهيات (تليفزيون، مباريات ، وألعاب ، وكمبيوتر .....الخ )

2- الجهل بمتطلبات الانتماء القومي .. فكثيرا ما نجد شخصا ما لا نشك في وطنيته وإخلاصه وحبه لبلده، ولكن لا يقوم بما يخدم بلده ..بل قد يقوم بما يسئ إلى بلده ويغيره وهو لا يدرى، بل وقد يتمادى في تبرير أفعاله .. أي أن الفرد قد يكون عامل هدم لأمته التي يحبها ولكن دون أن يدرى وذلك فقط بسبب الجهل .

ــــــــــ

(1) ليس هنا مقام دراسة تلك العوامل .. فهذه دراسة مستقلة .

3- وهو الأهم ..خصائص نظام الحكم وإدارة شئون الأمة على مختلف المستويات فإنها تؤثر سلبا أو إيجابا على درجة الانتماء والولاء القومي(1) وسوف نوضح في سياق لاحق كيفية تأثير جوانب نظام الحكم والإدارة على درجة الولاء في نفوس المواطنين .

وان أولى توابع أو نواتج الاهتمام بالوطن (أو الأمة)، أو بعبارة أخرى الآثار الحقيقية لمفهوم الانتماء والولاء هو الأساس بأحوالها والتساؤل :

- لماذا نحن متخلفون ؟

- لماذا لا توجد دولة عربية أو إسلامية مثل تلك الدول التي تتحكم في العالم ؟

- هل صفة التخلف والدنية أو انحطاط القدر هي صفة قرينة العربي والإسلامي(2) ولماذا ؟
وما هي أسباب التخلف ..

- وهل من المستحيل أن تنهض الأمة وتكون مثل هذه الأم تحول هذه الورقة عرض تصور
للإجابة عن هذه الأسئلة كأساس أولى للدراسة والبحث ، من خلال منهج بحثي عام وهو :

دون الترف على حقيقة ماهية شيء ما والعوامل المؤثرة فيه لا يمكن دراسة أو الحديث عنه أو تحقيق أي هدف يتعلق به ..

ولذلك تقع هذه الورقة في ثلاثة فصول :

الأول : ماهية وعوامل (أو محددات) عظمة الأمم أو تخلفها (بالقياس العكسي)

الثاني: من المسئول عن تخلف الأمة ومن ثم تقع عليه مسئولية النهضة .

الثالث: التغيير أو التحول من التخلف إلى التقدم والعظمة

ــــــــــ

(1) للتدليل على أهمية هذا العامل نسرد حالتين ( في الملحق ) رقم ....

(2) عفواً .. لا تقل كذا وكذا .. العبرة بالحاضر ودعنا من الماضي السحيق .

ماهية ومحددات عظمة الأمم

مفهوم الأمة :

عادة ما يستخدم هذا اللفظ (الأمة) للإشارة إلى مستوى أو كيان أعلى من البلد الواحد، فالبلد الواحد يشار إليه بالوطن (مثل أي بلد عربي) أما الأمة فهي تشمل أكثر من بلد (مثل الأمة العربية أو الأمة الإسلامية ) وان كان هذا العرف يستبعد استخدام لفظ "الأمة" للإشارة إلى بلد معين وخاصة إذا كان البلد كبيرا من حيث الحجم وعدد السكان ويتمتع بمكانة دولية مرموقة مثل "الأمة الأمريكية"

ولكن من الناحية الأخرى ليس من الضروري أن يرتبط هذا المفهوم بالبعد الجغرافي أو بالشكل الرسمي للدولة إذ أنه يمكن استخدام اللفظ للإشارة إلى مجموعة من الأفراد ترتبط فيما بينها بروابط تاريخية وثقافية وتجمعها أهداف وطموحات مشتركة مستهدفة، ومثال ذلك : الأمة اليهودية (قبل قيام إسرائيل، والأمة الكردية في الوقت الحاضر) .

أهمية دراسة وتحديد ماهية العظمة ومحدداتها :

من المنطق أن نقر أنه لا يمكن تحقيق شيء ما دون معرفة ماهيته ومحدداته(1) فلأن طرأ على بال أحدنا حلم أو أمنية أن يكون عظيما أو راود أحدنا حلم بأن تكون أمته عظيمة يفخر بالانتماء إليها ، فلكي يتحقق هذا الحلم لابد من الإدراك العقلي والقلبي (أي الفكر والأحاسيس والعواطف) بماهية (أي ماذا تعنى أو تقصد) تلك العظمة والعوامل التي تحققها، وذلك كشرط أساسي لبدء العمل على تحقيق تلك الأماني والأحلام . إن كل الإنجازات البشرية العظيمة كانت بدايتها أمنيات أو رؤى أو أحلام تتجاوز الواقع وتسمو عليه، أي استهداف الارتقاء والتميز والسمو .

مفهوم عظمة الأمم :

يرتبط مفهوم "العظمة بشكل عام بحالة التميز والارتقاء والسمو على الآخرين وذلك فـي آي سياق سواء كان ماديا أو اجتماعيا أو عقائديا، أما مفهوم " عظمة الأمم" فهو مفهـوم

ــــــــــ

(1) في غالبية الأحيان يحدث الاختلاف في الحوارات والمؤتمرات واللقاءات الفكرية فقط بسبب اختلاف
منظور كل طرف إلى ماهية موضوع المناقشة فكل طرف يتحدث عن مفهوم مخالف لذلك الذي يتحدث
عنه الطرف الآخر . ولذا كثيراً ما يكون كل الطرفين على صواب، رغم انتهاء الحوار بالشقاق الذي
يكاد يصل إلى درجة العداء والإهانات المتبادلة، كما هو الحال في العديد من حوارات قناة الجزيرة،
وخاصة برنامج " الاتجاه المعاكس " .

متعدد الجوانب وكل منها متعدد المستويات أو الدرجات، وتتكامل وتتفاعل هذه الجوانب فيما بينها، بمعنى أنه يمكن، وليس بالضرورة، أن يؤثر بعضها على البعض الآخر .

واستقراء للواقع الذي نعيش فيه هذه الأيام فان هذا المفهوم يرتبط بالريادة أو القيادة والقدرة على التأثير على القرارات ومجريات الأمور في المجتمع وهذا كله يرتبط بالضرورة بالتميز والتفرد . ويسرى مفهوم "العظمة" هذا أي تجمع إنساني سواء كان هذا التجمع مجموعة من الأفراد أو دولة أو العالم بأسره.

ورغم أن هذا المفهوم يعكس الواقع إلا أننا نرى أن مفهوم العظمة أوسع من ذلك، فمن هذه الزاوية لا شك أن أمريكا تعد أعظم دولة في العالم .. ولكن هل هي كذلك حقيقة، وهل هي النموذج المثالي الذي تسعى وتقبل أي أمة أن تكون كذلك ؟ وأليست اليابان أمة عظيمة، وأليست الصين أمة عظيمة ؟ نرى أن مفهوم العظمة يتجاوز عامل المكانة الدولية والقيادة والقدرة على التأثير على القرار . ونرى إجمال جوانب عظمة الأمم في جانبين :

أ-جانب ظاهرا ملموس ويتمثل في المكانة الدولية أو القيادة والريادة والقدرة على التأثير في
القرار الدولي .

ب- جانب خفي غير ملموس يتعلق بمشاعر الاحترام والتقدير أو الإعجاب والانبهار وربما
الحب أيضا .

ونعتقد أن أيا من العاملين منفردا يمكن أن يوفر أساسا جزئيا لعظمة ناقصة، ولكن اجتماعهما يوفر الأساس الراسخ للعظمة الحقيقية الكاملة والنموذج المثالي التي ينبغي أن تسعى إليه الأمم(1) .

محددات العظمة :

سبق أن رأينا أعلاه أن هناك جانبان أو عاملان أو محددان رئيسيان للعظمة، وهما :

· المكانة الدولية والريادة

· الاحترام والتقدير والإعجاب .

ولكن هذان العاملان ما هما إلا نتائج لعوامل أخرى تفصيلية يجب تحليلها تفصيليا كخطوة أولى على طريق "نهضة الأمة" ولكن نظرا لتعددها فإنها تحتاج إلى أكثر من فصل خاص بكل منها . ولذا نكتفي في هذا المقام بعرض شكل إجمالي تلك العناصر .

ــــــــــ

(1) لاشك أن المكانة الدولية والقيادة التي تستند فقط إلى القوة والقهر والكراهية والحقد والبطش والتدمير
والقتل في أرجاء العالم ليست هي ما تسعى إليه كل الأمم ( وهذا هو نمط العظمة الأمريكية ) .

المكانة الدولية ( الريادة والقيادة )

الاكتفاء الذاتي روح التميز والريادة

والقوة والسيطرة

- الاقتصادية - علمية وتكنولوجية

الإنسان

موارد ( شخصية الفرد )

حسن عسكرية

استغلال

النموذج الأمريكي

الاحترام والتقدير والإعجاب


السلوك الحضاري القيم الأخلاقية الإنجـــازات

الظاهري - احترام الحقوق والوجبات - ذاتية

- النظافة - العطاء وخدمة الآخرين -خارجية تخدم الآخرين

- النظام ( ابتكارات وبناء )

- المظاهر الجمالية

أقرب الدول إلى هذا الجانب ربما يكون النموذج الياباني .

وكما سبق القول فان كلا من هذه العوامل هو محصلة عناصر أخرى ، ونكتفي في هذا المقام بتحليل مبسط لعناصر القوة باعتبارها العنصر الملموس في الجانب(أ)

القوة الاقتصادية القوة العسكرية

- موارد طبيعية بشرية - موارد اقتصادية

-كيفية استغلال الموارد - علم وتكنولوجيا

- علوم - الإنسان

- عقلية وروح الإنسان - روح التميز

- الإرادة

- الإيمان بالهدف

ومن الواضح أن كل عناصر الجانب (ب) تعتمد على الإنسان.

وهكذا نخلص إلى أن العنصر الأساسي في عظمة الأمم هو : روح التميز والارتقاء أو بعبارة أخرى " شخصية الفرد " والتي إذا ما أضيف إليها روح الولاء والائتمان القومي كان النتاج أمة عظيمة .

وللتدليل على أهمية هذا العنصر بالقياس إلى العناصر الأخرى نسوق حالة عملية ( أو مثال واقعي ) لنموذجين على طرفي نقيض :

الأول : اليابـان :

ليس لديها الكثير من الموارد الطبيعية، وبالرغم من ذلك حققت القوة الاقتصادية والتكنولوجية بفضل شخصية الفرد وقيم الانتماء والولاء القومي . أي أن لديها عنصر الإنجازات بامتياز، وهذا ما يجعلها أمة عظيمة ( في اعتقادي ومن وجهة نظري الشخصية ) رغم أنه ليس لديها القدرة الملموسة على التأثير على القرار الدولي بسبب عدم وجودة القوة العسكرية، وهو أمر مفروض عليها .

الثاني : السعودية :

لديها الموارد الاقتصادية التي تسمح بتحقيق أفضل مستوى من التعليم والتكنولوجيا، ومن ثم بناء قاعدة صناعية مدنية وعسكرية وتحقيق الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن الغير في كافة المجالات، ومن ثم تحقق مستوى متميز من العظمة . ورغم ذلك فهي أبعد من غيرها عن مقومات عظمة الأمم رغم أن لها قدر من التأثير على مجموعات الأمور في بعض الأحيان لدى الدول الفقيرة بسبب المساعدات الاقتصادية، ولدى العالم عموماً بسبب امتلاكها لمورد النفط الذي يحتاج إليه الآخرين .. ولكن لماذا تبعد عن مقومات العظمة ( من وجهة نظري الشخصية ) ؟ ذلك بسبب : اعتمادها على الغير في الدفاع عن نفسها، وفي كافة وسائل الحياة الأخرى وذلك بسبب وجود الإنسان الذي لديه روح التميز والارتقاء والريادة أو القيادة(1) .

وهكذا فإننا أمام :

إنسان بلا موارد لديه إنجازات ومن ثم إعجاب وتقدير .

موارد بلا إنسان لا إنجازات، واعتماد على الغير ولا إعجاب ولا تقدير .

ــــــــــ

(1) وعوامل أخرى تتعلق بنظام الحكم وسلوك الطبقة الحاكمة وتعاملاتها مع الآخرين، الأمر الذي يخرج عن
نطاق البحث في هذه الورقة .

مظاهر ومعايير " العظمة"

سبق وأن أوضحنا في المقدمة أن حالة "عظمة الأمم" هي نتاج عدد كبير من العوامل أو العناصر التي تتفاعل فيما بينها . وعرضنا لتلك العوامل إجمالاً واجلنا تفصيلها لدراسة أخرى . ولكن، وبعد الانتهاء من هذه الورقة، ولم يكن البند الحالي باعتباره المفتاح لقيمة هذه الدراسة ، وهكذا فان هذا البند هو آخر ما كتب في هذه الورقة بالرغم من أنه يقع في بدايتها .

وتتمثل هذه الواقعة في حوار بين سفير إحدى الدول العربية وبيني :

قال : مصر بلد عظيمة .

قلت : كان

قال : كان عظيما ، وهو عظيم الآن ، وسوف يظل عظيما

قلت :كيف ؟ وإسرائيل وهى بلد صغير تملى عليه شروطها وتحد من حركته وتحد من حرية اتخاذ القرار ويجب أن يأخذ موافقتها قبل التصرف في أرضه وحدوده..

قال : إن إسرائيل قاعدة عسكرية ،وعندها 250 رأس نووي .

انتهت الواقعة .....!

ولا أدرى إن كان سيادته يعبر عن قناعة حقيقية أم أن الحديث كان من قبيل المجاملة من مضيف إلى ضيفه، ومهما كان القصد ، فلقد سعدت بالمجاملة وثلج صدري . غير أنه بعد تفكير متعمق في ذلك الحوار أدركت خطورته رغم سعادتي به ....

إن مصدر خطورة (أو أهمية هذه النقطة ، ومن ثم هذا البند يتضمن التحليل التالي :

إن عنوان هذه الدراسة " على طريق نهضة (أو عظمة ) الأمة" والهدف النهائي منها هو المساهمة الفعلية في تحقيق التقدم على طريق نهضة أو عظمة الأمة . ولكن ماذا لو أن البعض (أو ربما لا يفكر) أصلا في ارتياد هذا الطريق ولا يهتم ولا يهتم به أصلا .. بالقطع لا تكون هذه الورقة ذات أهمية بالنسبة إليه .ولن يلتفت إليها .. ومن ثم تفقد قيمتها قبل أن تقرأ.

ولكن من ذا الذي لا يهتم بهذا الطريق ؟ هو ذلك الذي لا يدرك أنه في حاجة إليه .. فمثلا إذا صدر كتاب بعنوان :" الطريق إلى الرشاقة" "أو الطريق إلى الذكاء " أو "دليل النجاح" فان هذا الكتاب لن يلفت نظر من يعتقد في نفسه أنه رشيق أو أنه ذكى أو أنه ناجح بما فيه الكفاية .. ومن ثم لا يحتاج إليه .

وهذا يدعونا إلى أن نقرر حقيقة منطقية يغيب عن فكر الكثيرين ألا وهى ..

إن عدم الرضا(1) ( أو رفض الواقع) هو البداية والأساس فى التحسين لماذا وكيف ؟ !

إذا شعر المرء بالراحة والسعادة أو الرضا بوضع ما فلن يكون لديه الدافع إلى التغيير. فإذا لم يدرك الفرد، أيا كان موقعه أن هناك نقص أو قصور أو خطأ ما فلن يكون هناك أصلا محل للتفكير في سبل علاج هذا القصور ومن ثم سوف يظل الحال على ما هو عليه أو قد يسوء، لأن الأحوال بعيدة عن الثبات فما لم يكن هناك جهد للتحسين والارتقاء سوف يكون هناك ارتكاس وتدي .

والقياس، لن يرتاد طريق العظمة أو النهضة إلا من يشعر بالقصور والنقص أو التخلف، أو بصفة عامة ..عدم الرضا .

غير أنه من الناحية الأخرى ..فان عدم الرضا لا يجوز أن يؤخذ على إطلاقه، ولا يكفى وحده للبدء بمسيرة التحسين، أو ما نعتبره طريق العظمة أو طريق النهضة .

بل إن عدم الرضا قد يكون عائقا لبدء المسيرة على ذلك الطريق . كيف .. إذا وصل عدم الرضا لدرجة الإحباط واليأس فسوف تنعدم القدرة على الحركة ..

لذلك يجب أن يقترن عدم الرضا باليقين بإمكانية التغيير والتحسين وأن تتوافر الإرادة أو العزيمة على المضي في ذلك الطريق .

إن عدم الرضا ينتج من التركيز على النقائض أو العيوب أو النقد ولكن الأمل والثقة في إمكانية التغيير يتأتى بدراسة جوانب القوة والفرص المتاحة للتحسين . ولذلك فان التركيز على أحد الجانبين دون الآخر سوف يؤدى إلى نفس النتيجة ألا وهى عدم البدء في ارتباط طريق النهضة ..

وللأسف الشديد هذا هو واقع الغالبية منا .. فكثيرا ما يسمع ونشاهد الحوارات بين طرفين، أحدهما يركز على النقائض والعيوب ولا يرى شيئا جميلا أو جيدا . والآخر يركز على المزايا والإنجازات والمحاسبة ولا يرى أو يعترف بأي من جوانب القصور أو النقص(2).. ولذلك يقول أحدهما ..انك لا ترى ألا الجزء الفارغ من الكوب .. ولكنه هو نفسه يستغرق كلية في التأمل في الجزء الممتلئ من الكوب ولا يرى الجزء الفارغ . ولعل هذا المنهج ( المنطقي) فـي التحليل هو الأساس فـي منهج التحليل الاستراتيجي كأحـد مقومات

ــــــــــ

(1) عفواً .. لنستبعد قضية الرضا بالقضاء والقدر من السياق الحالي، مؤقتاً .. وسوف نعرض لها تفصيلاً في
سياق لاحق .

(2) وكما هو الحال عادة في " برنامج " الاتجاه المعاكس " الذي تعرضه قناة الجزيرة .

"الإدارة الاستراتيجية"(1) ويقضى هذا التحليل بدراسة نقاط القوة (أو الجزء الممتلئ من الكوب) وكذلك نقاط الضعف (الجزء الفارغ من الكوب) والفرص المتاحة، والحدود أو القيد، أو التهديدات . واختصارا يشار إلى هذا التحليل بالرمز (SWOT )

وبقدر سلامة هذا التحليل بقدر ما كانت درجة النجاح على النجاح على طريق النهضة وتعتمد سلامة هذا التدليل بدورها على درجة عمق وموضوعية التفكير المنطقي وهذا ما سوف نعرض له تفصيلا في البند ..

خصائص مفهوم وحالة "العظمة ".

قبل أن نتعرض إلى معايير العظمة (وهى موضوع البند الحالي) من المهم أن تعرض لخصائص المفهوم والحالة التي تشتق المعايير من أجل تقييم تلك الحالة . وتتمثل خصائص هذا المفهوم ( أو الحالة ) فيما يلي :

1- مفهوم شخص :أي أنه يعتمد على شخصية الفرد، مثل الميل والطباع والأهداف والأهمية النسبية للعوامل والمتغيرات . فكما سبق أن رأينا أن هناك عدد من العوامل أو العناصر التي تساهم في إنتاج أو تحقيق حالة العظمة، ولكن تختلف الأهمية النسبية لهذه العوامل من شخص لآخر باختلاف شخصية الفرد .

وللتذكرة فان هناك أربعة عوامل (أو عناصر): القوة بمختلف أشكالها، إرادة التميز والارتقاء والإنجازات، القيم السلوكية والأخلاقية الإنسانية .. فهناك من يرى أن العظمة هي قرين أو معادل للقوة والسيطرة والتأثير على القرار ولا يعطى وزنا كبيرا لأي من الثروة أو الجاه أو القيم أو الإنجازات وهناك من يرى العظمة في الثروة بغض النظر عن السلطان والمركز الاجتماعي،.. وهكذا ومن هنا نجد أنه :

طالما أن شخصيات الأفراد تختلف، وأن مفهوم العظمة والتقدم يختلف باختلاف الشخصيات، فلن يكون هناك اتفاق لا في الأهداف أو الخطط أو القرارات والأفعال

2- مفهوم نسبى : حتى لو اتفقنا على العوامل التي تحدد العظمة، فما قد يكون كثيرا أو مرضيا بالنسبة لشخص ما قد يكون قليلا أو غير مرض بالنسبة لشخص آخر . ولننظر

ــــــــــ

(1) -وكما هو الحال عادة في برنامج "الاتجاه المعاكس " الذي تعرضه قناة الجزيرة

(2) –على الرغم من أن هذا الفكر يندرج في سياق الفكر الإداري وإدارة المؤسسات الاقتصادية ،الا أنه يسرى في الواقع نشطة الإنسانية وكافة الكيانات البشرية ، سواء كان فردا أم مؤسسة أم الدولة بصفة عامة

إلى حالة العظمة (أو التقدم) باعتبارها سلم ذو درجات ، فإذا الفرد إلى الدرجات العلى شعر بالنقص والتدني .. وإذا نظر إلى الدرجات الدنيا شعر بالرضا والعظمة . ولذلك يوصى بالنظر إلى الدرجات العلى لكي يكون هناك حافز أو دافع للتحسين والتقدم ، وهكذا سواء بالنسبة للفرد أو المؤسسة أو الدولة أو الأمة..

3- عدم ثبات مفهوم وحالة العظمة: من البديهي أن حالة العظمة ليست ثابتة .. فمن يكون على مستوى عال من سلم العظمة قد يصبح في الدرجات الدنيا

والعكس صحيح .. وان أهمية هذه الحقيقة تكمن في التأثير على أن:

الحالة الراهنة أو الحالة الماضية لا تمثل قيدا على احتمالات وإمكانيات المستقبل .

ففي غالب الأحيان، وللأسف يصدر الأفراد أحكامهم على المستقبل بناء على الحاضر ومن ثم يفقدون الأمل وتثبط الهمم والعزائم على التغيير . وبالإضافة إلى تغير حالة العظمة، وهو الأهم فان ماهية أو مفهوم العظمة يتغير من ويختلف من وقت إلى آخر في نفس الفرد ذاته .. ففي مرحلة ما تكون الأولوية والأهمية للمظاهر المادية أو السلطان، وفى مرحلة أخرى قد تكون الأهمية للقيم والمبادئ والعكس صحيح .

معايير العظمة:

إن المعيار هو مقياس (كمي أو وصفى ) لتقييم موضوع ما، والموضوع قد يكون (شخص ما أو مجموعة من الأشخاص أو حالة أو حدث) وبالنسبة للدراسة الحالية فالموضوع هو "حلة العظمة" . ويتمثل المعيار في مجموعة الخصائص أو الصفات التي إذا توافرت أصدرنا الحكم أو التقييم بأن الفرد أو المؤسسة أو الدولة أو الأمة، عظيمة بدرجة كذا .....أو أن (ا) أعظم من (ب).

ولعله من نافلة القول أن خصائص مفهوم وحالة العظمة السابقة تتصرف تلقائيا إلى معايير العظمة، أي أنها شخصية، ونسبية ومتغيرة، ومن هنا تنبع صعوبة أو استحالة الاتفاق بين الأفراد على إصدار حكم أو تقييم واحد لحالة العظمة . وهذا بصفة عامة . ولكن إذا كان الأمر يتعلق بقيم حالة العظمة لمجموعة من الأفراد أو (الأمة)، وتنتج هذه الحالة من تضافر جهود الأفراد ، فلا بد أن يكون هناك تصور عام متفق عليه بين أفراد هذه المجموعة عن ماهية هذه الحالة وعناصر ومعايير تقييمها وإلا لن يكون هناك تقدم للجهود المشتركة على طريق تحقيق تلك الحالة .

والأهم من ذلك أن كثير من الناس يتمنون ويتحدثون عن عظمة الأمة ونهضتها وتقدمها دون أن يكون هناك مضمون ذهني ومحدد لماهية تلك العظمة التي يحلمون بها ويتمنونها لسبب واحد وهو أنهم لم يفكروا في تكوين صورة ذهنية عن هذه الحالة .

ولكن نظرا لأهمية توافر هذه الصورة ، فإننا نسوق بعض الأمثلة والحالات العملية التي تساهم في تكوين تلك الصورة، في ذهن القارئ على أمل المساهمة في تكوين مفهوم عام يتفق عليه مجموعة من الأفراد ،ومن ثم يمثل عامل (أو قاسم) مشتك بين تلك المجموعة كنقطة بداية لتلك المجموعة كنقطة بداية لتلك المجموعة للعمل على تحقيق الصورة المتفق عليها، أو بعبارة أخرى لخلق لغة مشتركة بينهم .

تنبثق معايير العظمة من العوامل والعناصر التي تخلقها أو بعبارة أخرى من محددات العظمة، فمن تتوافر فيه تلك العوامل أو المحددات بدرجة أكبر يكون أعلى درجة على سلم العظمة .. وهذا صحيح بصفة عامة عندما يكون هناك اتفاق على تلك العوامل وأهميتها النسبية .. فمثلا من مظاهر العظمة (أو قل التقدم ) النظافة والنظام والانضباط والالتزام بالقواعد والقوانين ..........الخ وهذه عوامل لا خلاف عليها ومن اليسير الحكم على درجة توافرها في الأفراد أو الجماعات أو الأمم ، ومن ثم تتوافر لديه هذه العناصر بقدر أكبر يكون على درجة أعلى من سلم العظمة ، ومن ثم ليس هناك مشكلة حقيقية بشأن هذه العناصر ومعايير تقييمها .. ولكن تظهر المشكلة حينما يكون هناك عناصر متعارضة فيما بينها وهناك اختلاف بين الأفراد على الأهمية النسبية لتلك العناصر . ولتوضيح هذه النقطة نسوق الحالات التالية :

1. امرأتان (س) ، و(ع) س امرأة فقيرة تعيش في كوخ من الحطب وتأكل يوما وتجوع الآخر، و (ع) امرأة صحيحة وجميلة وتعيش في قصر وخدم وسيارات وحرس وسطوة لدى أولى الأمر .. فمن الأعظم والأفضل..؟ لا شك أنها (ع)، ولا أتوقع أن هناك اختلاف على ذلك، ومن ثم ليس هناك مشكلة فى تطبيق المعايير أو التقييم . ولكن إذا أضفنا معلومة أن (ع) صارت هكذا ببيع جسدها لمن يملك المال والسلطان ولمن يدفع أكثر .. فهل يختلف التقييم بعد هذه المعلومة ؟ أعتقد أن التقييم سوف يختلف بالنسبة للبعض ، ولكن سوف يظل هناك فئة لا يتغير تقييمها وتظل (ع) بالنسبة لهم هي الأعظم والأفضل والأجدر بالإعجاب والتقدير ويقولون .. شرف إيه ..المهم المتعة والجمال والسطوة والسلطان ..انه التناقض بين المادة والمظاهر وبين القيم والمثل والمبادئ.. انه التناقض والصراع الأبدي على كافة العصور وفى كافة المجتمعات ولدى غالبية الأفراد دون وعى أو إدراك .. وللأسف الشديد ينتهي الأمر لدى الكثير بغلبة القوة والسلطان والمادة والمظاهر على القيم والمثل والمبادئ .. وأيضا دون أن يدرى القدر والجماعة أو المجتمع بذلك . أن حالة هاتين المرأتين هي نفسها حالة من يخون أمته مقابل منافع مادية أو سلطان .. ومن يبنى ثروته من الغش والسرقة والرشوة والنفاق، ومن يصل إلى المراكز العليا بالواسطة أو التزييف والظلم أو يبنى ثروته من الاحتكار والاستغلال .. يجمع المليارات التي تبقى بعد فنائه وفناء أحفاده في نفس الوقت الذي لا يجد فيه الآخرون، وربما من أهله وبلده قوت يومهم .. أنها نفس القضية وان كان بدرجات وأشكال مختلفة .. وغالبا دون إدراك أو وعى ..الغالبية تستنكر حالة المرأة (ع) ..ولكن لا تستنكر الحالات الأخرى .. على الرغم من أن الجوهر والمضمون واحد .. والأدهى من هذا كله .. أن المجتمع يضع أولئك على الدرجات العليا من سلم العظمة، ولعل هذا هو أحد أسباب تدهور مكانة القيم والمثل بين أفراد المجتمع . وهكذا نصل إلى نتيجة هامة جدا ..ألا وهى .. إذا كان هناك مجتمع ما : قلة منحرفة وسيئة، والغالبية ليست كذلك أو جيدة، أو تزعم أنها كذلك وتستنكر انحراف تلك القلة، فان هذه الغالبية، دون أن تدرى، هي أحد أسباب الانحراف بسبب ما تقدمه الأغلبية من الإعجاب أو التقدير أو الاحترام أو النفاق معها والتقرب والتزلف لها . وبالقياس، لو أن هذه الغالبية التي تدعى الصلاح والبعد عن الانحراف .. لو أنها أظهرت العكس .. الاحتقار والازدراء والنفور والمقاطعة .. لصلح حال تلك الفئة المنحرفة .

2. طالب (ع) حصل على تقدير امتياز وآخر (س) حصل على تقدير مقبول فقط .. أيها أفضل ،وأعظم لا جدال أنه (ع) ولكن إذا أضفنا معلومة أن (ع) أخذ دروس خصوصية في جميع المواد بآلاف الجنيهات وأن والده أستاذ في نفس الكلية أما (س) فوالده عاجز والطالب يعمل ليعول أسرته وليس لديه كتب خاصة به وإنما يستعيرها من زملائه ولا يحضر محاضرات .. فهل يختلف التقييم ؟ هناك بالفعل لا يتغير تقييمهم ويظل (ع) هو الأعظم والأفضل .. ولكن هناك البعض ونحن معهم سوف يتغير تقييمهم ويمنحون (س) درجة أعلى على سلم العظمة لماذا ؟ لأن المقبول التي حصل عليها (س) هي تعبر عن جزء فقط من قدراته الذاتية، أم الامتياز التي حصل عليها (ع) فهي من صنع أطراف خارجية . والعظمة الحقيقية هي في شخصية وقدرات الفرد الذاتية وليست في الحالة الظاهرية التي هو عليها أو الوسائل الخارجية المساعدة . فمن يتسلق عشرة أمتار من جبل وعر أعظم من ذلك الذي يهبط على سفح الجبل بطائرة هليوكوبتر وهو لا يقوى على صعود درجات سلم طابق واحد ..

3- رجل قوى وضخم اعتدى على طفلين ليسلبهما متاعهما، أحدهما (ع) ساوم وتفاوض مع
المعتدى ولكن بشروط يفعل كذا ولا يفعل كذا ..يستخدم هذا ولا يستخدم ذاك .. وإذا أراد
أن ينقل شيء من مكانه إلى مكان آخر أو أراد أن يفتح بابا أو شباكا يجب أن يحصل على
موافقة المعتدى .. أم الآخر (س) فلم يساوم ولم يقبل تلك الشروط .. ومن ثم لم يسترد
متاعه .. فأيها أفضل وأيهما أعلى على درجات سلم العظمة ؟ البعض يرى أن (ع) هو
الأفضل لأنه عرف كيف يسترد متاعه وممتلكاته .ولكن البعض الآخر، ولعل القلة ونحن
معهم، يرى أن (س) هو الأفضل والأعظم لأننا نرى أن هناك فارقا كبيرا بين الحيازة
والسيادة . والإرادة وعدم الاستسلام لشروط المعتدى، ولو بفقدان المتاع، هي أعظم من
استرداد المتاع بالاستسلام والقبول بالشروط ..

فكما سبق أن أوضحنا أن العظمة ترتبط بشخصية الفرد وقدراته الذاتية وإنجازاته وليس بالحالة التي هو فيها أو عليها والتي تكون من صنع الآخرين .. فالمستسلم للشروط والقبل بالتخلي عن السيادة وحرية القرار والقائل بأنه لا يملك من الأمر شيئا وأن الأمر مرهون بموافقة المعتدى (أو سيده)، فهو على أدنى درجات سلم العظمة ولو حاز الدنيا بأسرها، أدنى وأحط من ذلك الذي لا يستسلم ولا يقبل بالخضوع للشروط، ويقول .. ولو اجتمع أهل الأرض كلهم جميعا "هيهات منا الذلة حتى ولو فقد المتاع وفقد الحياة ذاتها .

وهكذا .. في كل من الحالات الثلاث وأمثالها كثير .. هناك هذا وهناك ذاك ..شخصيات مختلفة ، ونماذج مختلفة لماهية ومعايير العظمة ، وليكون كل منا نموذجه الخاص به ..

مظاهر وأسباب تخلف الأمم

قبل بدء المناقشة والتحليل نود توضيح بعض المفاهيم والعلاقات بين الأهداف والوسائل والأسباب والنتائج، حيث أن :

أ‌- هناك هيكل أو بناء (أو هرم) من الأهداف والوسائل ، حيث أن كل هدف يمكن أن ننظر إليه باعتباره وسيلة لتحقيق هدف أعلى منه إلى أن نصل إلى هدف نهائي وحيد على قمة الهرم أو قمة الشجرة

ب‌-كذلك هناك هيكل من الأسباب والنتائج ، فكل سبب له نتيجة وهذه النتيجة تعد سببا لنتيجة أخرى ، وهكذا إلى أن نصل إلى السبب الرئيسي

يمكن الجمع بين هذين الهيكلين (أو المجموعتين أ ، ب) في نموذج الشجرة :

فالشجرة لها قسمان : أحدهما فوق سطح الأرض ويتمثل في الساق والأغصان والأوراق، ويبدأ هذا الجزء بتفرعات كثيرة وينتهي بالقمة، والآخر تحت سطح الأرض ويتمثل في الجذر الرئيسي الذي تتفرع منه الجذور الأخرى وتحت سطح الأرض مباشرة نجد عدد كبير من الجذور والشعيرات تتفرع من الجذر الرئيسي وعندما نتحدث عن البناء والإنجازات والأهداف فإننا كأننا نتحدث عن الجزء المرئي فوق سطح الأرض ويمثل الأهداف والوسائل ونصعد حتى نصل إلى الهدف النهائي .

ولكن عندما نتحدث عن المشكلات فإننا نتناول الأسباب أو جذور المشكلة، ويبدأ التحليل بعدة جذور وينتهي إلى الجذر الرئيسي للمشكلة، والذي تتفرع منه الجذور الفرعية، والذي ما لم نصل إليه ونعالجه فلن نتمكن من علاج الخلل في الشجرة كلها .

عودة إلى أسباب تخلف الأمم ..

سبق وأن عرضنا لمفهوم وعوامل (أو محددات )عظمة الأمم، وخلصنا إلى أن العنصر الرئيسي في كل محددات العظمة هو روح الفرد، أو شخصيته وصفاته، وقلنا سابقا أن "الأمة " هي مجموعة من الأفراد، ومن ثم فان عظمة (أو تخلف ) الأمة يرجع إلى " شخصية أو روح الفرد ". وهكذا حقيقي وصحيح وسوف تتدعم هذه النتيجة مستقبلا في أكثر من موضع . ولكن مثل هذه النتيجة رغم منطقها فأنها تفتقر إلى الفعالية والجدوى(1) .

ــــــــــ

(1) بمعنى أنها لا تقود إلى تأثير ايجابي في القضية موضوع المناقشة ، أي كيف يمكن الاستفادة من النتيجة
هذه في المساهمة في إحداث التغيير (أو التحسين في حالة الأمة ومن ثم تحقيق نهضتها وعظمتها في
النهاية .

وحيث أننا نهدف في الأساس إلى الانتهاء إلى نتائج واقعية ملموسة على طريق نهضة الأمة .. فانه ينبغي تجسيد هذه النتيجة في شكل محدد وواضح يقود إلى تحقيق الهدف ..

عموما إن ألفاظ "روح الفرد " ،شخصية الفرد،" "العقل " تشير إلى وجود حقيقي ولكن غير مدرك (أو غير معلوم) طبيعته، ولكن يستدل عليه من الآثار التي تنتج عنه (أي عن الوجود الحقيقي للروح أو الشخصية ) . ولذلك سوف نستبدل عبارة "شخصية الفرد " كسبب لعظمة تلك الأمة أو تخلفها، بمجموعة من القيم السلوكية والتصرفات التي تنتج عن تلك الشخصية وتقود في النهاية إلى تخلف الأمة، وهى نفسها التي تقود نقائضها إلى عظمة الأمة ومن هذه القيم السلوكية ، على سبيل المثال لا الحصر :

1- ضعف أو عدم الانتماء والولاء من قبل الفرد إلى الجماعة التي يعيش فيها، أو المؤسسة، أو الدولة . "والولاء " هو أيضا مفهوم ذهني يقصد به : الاهتمام وحمل الهم وانشغال الفكر، أي أن ضعف الولاء والانتماء ينعكس في عدم الاهتمام أو عدم الإحساس بما يحدث للأمة، وكأن الأمر لا يعنيه وكل اهتمامه ينحصر في مصلحته الشخصية ، وليس عنده استعداد لبذل الجهد (الذهني أو البدني ) أو الموارد والوقت لمصلحة المجتمع (بكل مستوياته : العمارة، الحي، الشركة، المصلحة الحكومية، الشارع، الوطن، الأمة، العقيدة ) .. وليس لديه أماني أو أحلام ولا أهداف يتعلق بالوطن أو الأمة ....

ومن خصائص هذا المفهوم :

أ-الولاء عامل متغير يزيد وينقص لدى الفرد الواحد من وقت لآخر وبسبب عوامل كثيرة .

ب- نتيجة للخاصية أعلاه فهناك درجات متفاوتة من الولاء

ج- بالرغم من أنه أحد أهم أسباب تخلف الأمة ، إلا أنه هو ذاته نتيجة لعدد كبير من العوامل
ينبغي دراستها تفصيلا وتنميتها لتحقيق درجة عالية من الولاء.

2- عدم، وتدنى درجة إدراك الفرد لإمكانياته وقدراته، أو عدم الثقة بالنفس وضعف الهمة
والإرادة . وقيمة الفرد بالنسبة لذاته وبالنسبة لأمته تتناسب عكسيا مع عدم الثقة بالنفس
الذي قد يصل إلى أن الفرد يصير كالعدم، أو يساوى صفرا ..

وفى الحقيقة أن هذين العاملين السابقين (عدم الولاء، وعدم الثقة بالنفس ) ليعدان أهم أسباب تدنى مكانة الأمم ولإبراز أهمية الثقة بالنفس (بعد الله ) نسوق الواقعة التالية ودلالتها :

قال أحد أساتذة كلية الهندسة الكبار مقاما وسناً إحنا ولا حاجة، لا حول لنا ولا قوة .. إحنا ما فيش لو أمريكا قالت لنا : هف ها نطير .

هذا الأستاذ بالنسبة لأمته هو صفر، والتعليم الذي يقوم به ما هو إلا مجرد نقل معلومات للطالب بلا روح أو هدف يحرص الأستاذ لتحقيق وتكون جدوى مثل هذا النوع من التعليم متدنية ومحدودة، وهذا ما نعرض له في سياق آخر حول جودة التعليم وعلاقة ذلك بنهضة الأمة .

ولربما أن شابا بلا شهادة له هدف قومي ولديه ثقة بنفسه ولديه عزيمة وإرادة ليكون أكثر فائدة لأمته من هذا الأستاذ وأمثاله كثير، وللأسف إن غالبية أفراد الأمة من هذا الصنف، ليس هذا فحسب .. بل إن غالبية حكام الأمة من هذا الصنف، كذلك الذي كان يقول : إن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، وجاء من بعده من يقول : لا أقول 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا .. بل إن 100% من أوراق اللعبة في يد أمريكا . ونرد عليه بالقول : كأنك تقول أنك أنت وشعبك الـ.80% مليون وتراثك الحضاري وأمجاد أجدادك الفراعنة العظماء كما تقولون كأنكم " لا شيء" ويتجسد ذلك اللا شيء في عدم قدرتك على فتح الحدود بينك وبين ما تدعى أنهم أشقاء عرب والمسلمين المحاصرين والذين يموتون يوميا من المرض ونقص ضروريات الحياة ، في نفس الوقت الذي تمد فيه قاتليهم بالغاز بأقل من أسعاره العالمية، بل ويقولون بأقل من التكلفة ، وفى نفس الوقت الذي ترفع فيه أسعار الطاقة على مواطنيك، يعنى كأنك تدعم عدوك من دماء مواطنيك الفقراء المقهورين ..

عفوا ..أنا آسف وأعتذر عن هذا الخطأ ..فليس أولئك بأعدائك ولعلهم أقرب إليك قلبا وقالبا من أولئك المنكوبين ( أو لعلك تقول أولئك المجرمين الإرهابيين الانقلابيين )، ولعل الله يجعل لهم عوضا عنك وعن شركائك في حزب الشيطان الأكبر، الدول الغربية وأهلها اللا عرب واللا مسلمين، وهنيئا لك فلقد نجحت في إفراغ ألفاظ "العروبة والإسلام " بل والإنسانية من محتواها في عقول كل من كان له قلب أو أدنى قدر من الإحساس(1) .

3- عدم تدنى إدراك الأفراد لمضمون ومتطلبات القيم الأخلاقية العامة : العدل في حقوق
الآخرين، الصدق والأمان .

4-تدنى جودة الأداء .. في الإنتاج والخدمات .

ــــــــــ

(1) ولنقارن ذلك "اللا شيء " بذلك الذي يقول "ولو اجتمعت جيوش الأرض هيهات منا الذلة "وتبعه بضعة
آلاف من المؤمنين بما آمن به فحققوا ما عجزت عن تحقيق كل الجيوش العربية في تاريخها الحديث .
الفرق الوحيد يبين هذين النموذجيين هو : الإيمان بهدف سامي (أو رسالة ) وإنكار الذات والثقة بالنفس
بعد الله القاهر القهار.

5- الأنانية : نهب أكبر قدر ممكن وإعطاء (أو التنازل ) عن أقل قدر ممكن في كل
التعاملات كأنهم لا يقرأون "ويل للمطففين "..

6- الخوف والجبن .. الخوف الذي قد يتغلغل في الأعماق لدرجة الخوف من اللا شيء .
ونذكر هنا ما يذكر من اللا معقول من التراث (1). من أن : أحد جنود التتار يجد مسلما
في الشارع فيقول له قف مكانك ويرسم له دائرة على الأرض ويأمره أن يظل في الدائرة
لا يتحرك حتى يذهب ويأتي بسيفه ليقتله، وينتظر المسكين في الدائرة حتى يقتل .

ولعل في أحكام الأمة من لا يختلف كثيرا عن هذا النموذج .

7- تدني عدم فعالية القدرات المكتسبة من تعليم ( مفيد وفعال ) ومهارات أو الحرص على
تنميتها .

8- إهدار الموارد : الوقت، الموارد المادية والسفه في إنفاقها، والعلم والقدرات، مثال على
ذلك : ذلك الطبيب الذي يقضى نحو ثمانية عشر عاما في أرقى أنواع التعليم وما يتطلبه
من ذكاء وجهد، وفى النهاية يتخرج ليشتغل بالجزارة أو التجارة، أو أستاذ جامعة في
كلية علمية عملية حاصل على جائزة الدولة في الكيمياء(2) يقضى حياته في أعمال جمعية
خيرية، وهذه حالات واقعية، وبغض النظر عن ظروفها ومبرراتها. إن رشد استخدام
الموارد يقضى باستخدامها في أفضل الاستخدامات وأكثرها فعالية من وجهة نظر
المجتمع . فلكل مورد تكلفة ومنفعة، ويقضى منطق الرشد الاقتصادي والإنساني بتعظيم
الفرق الموجب بين المنفعة والتكلفة

9- قسوة القلب وعدم الإحساس بمعاناة الآخرين

10- السلبية واللا مبالاة ..وأنا مالي خليك في حالك ..يعنى أنت اللي ها تصلح الكون ..

هذه السلبيات في شخصية الفرد نسوقها على سبيل المثال لا الحصر، والتي تقود في نهاية المطاف إلى انحطاط قدر الأمة إنما هي بمثابة الجذور الفرعية لحالة الانحطاط والتخلف التي تحياها الأمة .. هذه الجذور الفرعية تنبت من جذور رئيسي واحد ألا وهو :

ــــــــــ

(1) أنا شخصيا لا أستطيع تصديق ذلك بالرغم من أنه أنني سمعته من أكثر من مصدر علمي (أساتذة في
الجامعات )

(2) تلك الكيمياء التي قايض بها وايزمان على وعد بلفور .

تدنى درجة استخدام العقل في

التفكير المنطقي الموضوعي الفعال

ولكن ما المقصود بتلك العبارة وكيف ؟!

يقصد به " المنتقى الموضوعي (أو المجرد ) عدم التأثر بالأهواء أو العواطف أو الميول والعلاقات الشخصية أو الانتماءات الاجتماعية أو العقائدية أو الفكرية . ويقصد ب "الفعال " درجة عمق التفكير التي تكفل سبر غور الظواهر والأحداث وجوهر العلاقات والعوامل والمتغيرات والأسباب والنتائج، وذلك بما يكفل أحداث تغيير ايجابي في : إدراك أو تشخيص مشكلة ما أو ظاهرة ووضع الحلول الممكنة عمليا لتلك الظاهرة أو المشكلة .

ونظرا لأن هذا النوع من التفكير يمثل (في نظرنا ) الجذر الرئيسي لجوانب عوامل وجوانب عظمة (أو تخلف ) الأمم ،فانه يجدر به أن يحظى منا بأكبر قدر من التحليل المتعمق، وسوف نعرض هذا التحليل في بندين رئيسين:

أولاً : خصائص هذا النوع من التفكير للتعرف على طبيعته وماهيته

ثانياً : اعتبارات خاصة تتعلق بالممارسة العملية ( أو التطبيق في الواقع )

أولا : خصائص التفكير المنطقي الموضوعي (المجرد )الفعال :

1- يتطلب هذا النوع من التفكير أن طاقة جهدا ذهنيا ووقتا وتفرغا ذهنيا أو صفاء ذهنية
بمعنى عدم العجلة أو الضغط وعدم الانشغال بموضوع آخر ولذلك ..

2- إن متطلبات هذا التفكير يتعذر توافرها لدى كافة الأفراد، ولذلك فهو يعتبر عنصرا نادرا
نسبيا، ولذلك لا يجوز توقعه من عامة الأفراد أو محاسبتهم على أساسه

3- يتعذر إن لم يستحل، أن يكفل هذا التفكير شخص ما (حتى ولو كانت لديه تلك القدرة )
لكافة الموضوعات في كافة الأوقات، ولذلك نطرح هنا مفهوم "مدى هذا التفكير " أي
الموضوعات أو الأوقات التي تحظى بهذا النوع من التفكير من قبل نفس الشخص، ولعله
يمكن أن نرادف لفظ "المدى "بنطاق هذا التفكير .

4- هناك درجات أو مستويات مختلفة من "الفعالية " أو عمق التفكير في موضوع ما ..
وتتفاوت هذه المستويات بين الأفراد وبين الموضوعات والأوقات بالنسبة للفرد الواحد ..
والعمق أو الفعالية هنا هي نقيض ما نعبر عنه كثيرا .. بسطحية التفكير .

5- يستعصى هذا النوع من التفكير على التحكم في الموضوع والتوقيت والأجل الزمني،
بمعنى أنه لا يمكن القول، مثلا أنه في وقت كذا سوف أفكر في موضوع كذا .. وأصل
إلى النتيجة خلال مدة كذا ..

6- إن فعالية الفرد ومن ثم قيمته بالنسبة لمجتمعه تتحدد بطاقة التفكير من هذا النوع والذي
يعد الوقود الضروري للبحوث والتطوير وحل المشكلات والتخطيط الاستراتيجي والإدارة
الجيدة والاستخدام الرشيد الكفء للموارد المتاحة سواء على المستوى الفردي أو مستوى
الأمة .

7- طاقة الأمة (أو إمكانيات وفرص ) التقدم والارتقاء لدى الأمة في مختلف المجالات تتحد
بمجموع طاقات الأفراد (أو قدرتهم ) على مثل هذا النوع من التفكير

ثانيا اعتبارات تطبيقية تتعلق بالممارسة العملية لهذا النوع من التفكير :

إن هناك جوانب واعتبارات كثيرة ومهمة للممارسة العملية لهذا النوع من التفكير، ولكن سوف اكتفى في هذا السياق بعرض اثنين من أهم تلك الاعتبارات نظرا لشيوعها وأهميتها في غالبية جوانب حياة الأمة والإنسان عموما

ضرورة الحد الأدنى :

على الرغم من ندرة هذا النوع من التفكير وعدم توقعه من الكل فان هناك حدا أدنى من عمق التفكير أو استخدام العقل في مختلف أمور الحياة اليومية، وإلا تفقد قيمتها أو وجودها الحقيقي وبصفة خاص الحواس كالسمع والبصر والانفعالات . فالذي يسمع هو العقل لا الأذن، والذي يبصر هو العقل لا العين، والعقل أيضا هو مصدر أحاسيس وانفعالات الحب والكراهية والاشمئزاز والخوف .....الخ، وان استخدام القلب في هذه السياقات يقصد به العقل ، والقلب داخل جسد الإنسان من زاوية تشريح الجسد، والذي ما هو إلا عضلة تضخ الدم .. لا علاقة لها بالحواس أو الانفعالات .

ويمكن أن يستدل على صحة هذا التحليل بالرجوع إلى بعض آيات القرآن الكريم : " تهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها " كما أن بعض الأطفال من يبدأ حفظ القرآن وعمره ثلاث سنوات يحفظ عن طريق السمع .. يسمع ويحفظ ويردد ولا يفهم منه شيئا ومن ثم لا قيمة لما يحفظه(1) ولا أثر له في تحقيق هدف القرآن وهو تحسين حياة البشرية .

ــــــــــ

(1) موضوع الثواب قضية أخرى .

ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى " إذا قرئ القرآن واستمعوا له وأنصتوا "، وهكذا فان هناك فارقا بين السمع وبين الاستماع والإنصات والذي ينطوي على استخدام العقل في التفكير والتدبر، "أفلا يتدبرون هذا القرآن ".. وبالمقابل .. "وذا قرأت القرآن جعلنا على قلوبهم ( أي عقولهم ) أكنة أن يفقهوه " " وان تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " .... قضية منطقية إذ كيف يهتدي أو يتأثر المرء بما لا يفهم ، فمالا يفهم كأن لم يكن، ولا فهم بدون استخدام العقل حتى وان توافرت واقعة السمع ...

ليس فقط لا اهتداء بدون فهم .. أو استعمال العقل .. من الشواهد على ذلك أنك تسمع المقرئ يتلو آيات العذاب ، وعندما يتوقف تسمع صيحات إلا ستحسان والاستماع من الجوقة حوله .. الله..الله ياسيدنا الشيخ ، وفى كثير من الأحيان يسمع الطلبة عبارات التوبيخ والإهانة والتشبيه بالحيوانات، أو يسمعون وقائع التقتيل والتمثيل بالجثث والاغتصاب وترى على وجوه البعض منهم الابتسامات ....لماذا ؟

لأن ما لم يفهم كأن لم يكن ، ولا فهم بدون استعمال العقل حتى وان توافرت واقعة السمع ..

أما بالنسبة لواقعة النظر ، فالوسيط بين النظر أو الرؤية كفعل أو واقعة وبين الإبصار كنتيجة أو أثر هو العقل . فقد تتوافر واقعة النظر وكأنها لم تكن لا تحدث أثرا أو نتيجة ،كقول الله سبحانه وتعالى "تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " كذلك الحال بالنسبة للقراءة فالقراءة تكون أساسا بالنظر، ولكن ليس كل من يقرأ قرأ فكثيرا ما يأتي الطالب والطالبة ويشتكى أنه قرأ صفحة أو عدد من الصفحات ولم يفهم شيئا .. فأقول له اقرأها الآن وحدد الفقرة أو السطر أو الكلمة التي لم تفهمها .. عندما تجد نفسك مش فاهم توقف واخبرني .. ويستطرد الطالب في القراءة وينهى الصفحة وما بعدها ..وأخيرا يقول أنا فاهم .. ما الذي حدث ؟ يقول مش عارف ..

في مناسبات أخرى كثيرة يسأل الطالب عن إجابة سؤال معين فأطلب منه أن يقرأ السؤال لي بصوت عال، وبمجرد أن ينتهي من القراءة .. يقول أنا عرفت الإجابة في مرات أخرى كثيرة الطالب يقرأ الطالب كلمات غير موجودة أصلا في النص ويسقط كلمات موجودة لا يقرأها .. لماذا ؟ لأن الطالب كان يقرأها في منزله أو بمفرده قراءة بالنظر، أي قراءة سطحية أو بدون تركيز كما يتردد دائماً، وعندما قرأها مرة أخرى أمامي استخدم عقله فيها ففهمها .

وهذا منطق طبيعي يسرى بالنسبة لكافة الأشخاص بغض النظر عن ثقافتهم أو درجاتهم العلمية، وليس للأمر علاقة بدرجة الذكاء . فكثيرا ما يكتب بعض الأساتذة في الجامعات (دكاترة ) كتابات بدون منطق، أي خطأ، وحينما تناقشه فيها يعترف ويقول آه صحيح أنا كتبت الكلام ده ازاي .

في مرات كثيرة أقدم بعض الأوراق (الكتابات ) إلى بعض الزملاء لقراءتها ملتمسا التعليق عليها لاختبار مدى سلامتها وطالبا منه ذلك صراحة، وكثيرا ما تتضمن حوارا بين وجهات نظر متعارضة أو أقوالا متضاربة ومع ذلك لا أتلق ردا أو تعليقا سوى .. بعض الكلمات التي لا معنى لها مثل : كويسة .. كلام معقول .. جميلة ..ما هو طبيعي .. ....الخ ، وطبعا هذا غير معقول .. فمثل تلك الأوراق لا تسمح لقرائها إلا أن يعلق عليها .. فإذا كان هناك قول غير مألوف .. أو وجهتي نظر مختلفتين فلا يمكن أن تقف بينهما على الحياد، وحتى لو كنت على الحياد فمعناها أن كلاهما ينطوي على الخطأ .. ومن ثم يجب أن يبينه.. هذا بالطبع إذا كان قرأ حقيقة، وهو الأمر الذي عادة مالا يحدث .. لأنه قرأ بالنظر فقط دون التفكير أو استخدام العقل أثناء القراءة ..قراءة كأن لم تكن ..

في أحدى الوقائع ..كان أستاذ دكتور تربية إسلامية يصحح بعض أوراق الطلاب .. حوالي 50 ورقة في نحو ساعتين، وكانت غالبة الدرجات إن لم تكن جميعها في المدى (27- 30 ) والدرجة القصوى هي ( 30)، فناقشته وأبديت وجهة نظري أن هناك شيء ما خطأ .. أما في محتوى المرور أو في الأسئلة أو في الامتحان أو في التصحيح أو فيها جميعا، وأن تلك الأخطاء، وهذا السلوك ينطويان على ظلم، أي إخلال بالقيم، وإهدار لقيمة العملية التعليمية وله آثار سلبية على شخصية وسلوكيات الفرد بعد ذلك في شتى المجالات، وأوضحت له كيف، ومع ذلك لم يبد اهتماما جديا بما أقول .. مجرد كلمات غير ذات مضمون جدي وتشعب الحوار إلى موضوعات أخرى ..لماذا ؟ حقيقة الأمر هو لم يقرأ ما كتبه الطلاب ولم يستمع إلى حديثي الذي تضمن انتقادات واتهامات خطيرة .. لماذا ؟ السبب هو عدم التفكر والتدبر، أي عدم استخدام العقل فيما يفعل ومن ثم لم يدرك أهمية ما يفعل ولا أهمية وخطورة ما أقول ومن ثم كانت اللا مبالاه ..قراءة بالنظر وسمع بالأذن بدون استخدام العقل تساوى صفرا .

وختاما لهذه النقطة .. الآن بدأت تتضح ملامح إجابات محتملة لأسئلة عديدة حول تخلف الأمة (1)، أقتصر في المقام الحالي على سؤالين :

ــــــــــ

(1) أسئلة في غاية الأهمية والخطورة وغائبة عن دائرة اهتمام المفكرين والمسئولين، ولا يمكن أن يكون
هناك نهضة حقيقية دون الاهتمام بها والإجابة عليها . وما أقوم به في هذه الورقة هو مجرد محاولة
لاستكشاف بعض جوانب الإجابة عليها ولست واثقا من مدى نجاح تلك المحاولة .

الأول : لماذا لا يتناسب حجم الإنجازات العلمية التطبيقية المفيدة ( أي الابتكارات والاختراعات ) مع هذا الكم الهائل من الخريجين، وخاصة حاملي الشهادات العليا ( ماجستير ودبلومات ودكتوراه ) والكم الهائل من الأبحاث في مختلف المجالات، وأن غالبيته إن لم يكن كل، المنتجات المصنعة محليا ولها قدرة تنافسية أو مكانة في السوق إنما هي تصنيع محلى لمنتجات (أي أسماء وماركات ) أجنبية، هذا بالإضافة إلى أن جودة التصنيع المحلى ليست بجودة المنتج الأصلي رغم أن بعض المنتجات عمرها عشرات السنين وما زالت ليست في مستوى جودة وقبول المستهلك لها كما هو الحال مع المنتجات الأجنبية .. ولا يقتصر تدنى الجودة على المنتجات الصناعية .. بل يمتد إلى الإنتاج الزراعي والخدمات والنظم الإدارية وهذا إذا ما قورنت مصر بالعديد من البلدان الأصغر والأقل من حيث الإمكانيات والتي بدأت التصنيع بعد مصر وتطورت أضعاف التطور المصري(1) ناهيك عن جودة الكفاءات الإدارية (3)

الثاني : لماذا هذا التخلف الذي تعانى منه الأمة العربية والضعف والمهانة الدولية رغم أن الكتاب الذي يتلى في أرجائها آناء الليل وأطراف النهار، كما لم ولا يتلى مثله أي كتاب آخر في تاريخ البشرية يحتوى على مجموعة من المبادئ والقواعد والإجراءات والأحكام : أوامر ونواهي وحوافز وروادع التي لا تدع لأي عاقل مفرا من إتباعها، التي لو اتبعت لكانت هذه الأمة وبحق خير أمة أخرجت للناس، ولكانت أعظم أمة اقتصاديا وحضاريا ولسادت وسعدت وأسعدت البشرية جميعا .

لماذا ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟ إن الإجابة التي وردت بذهني من خلال التحليل السابق هي :

تدنى دور العقل في كل من : - نظام التعليم تصميما وتنفيذا

- قراءة القرآن

فنظام التعليم الذي يعتمد في غالبيته على التلقين والصم (أي الحفظ ) والإرجاع في ورقة الإجابة، والقص واللزق فيما يقال عنه أبحاث تجرى في غالبيتها لسد خانة (تأدية مطلب الترقيات ) .. مثل هذا النظام تكون قيمته الحقيقية أقل بكثير من حجمه الظاهري، كما أن تلاوة القرآن بدون تفكر وتدبر وإحساس بها تكون كأن لم تكن (باستثناء الثواب الموعود في الآخرة والذي لا يعلمه إلا الله . ولقد يقول قائل (حول دور القرآن ) .

ــــــــــ

(1) خذ مثلا تاريخ تطور صناعة السيارات في مصر وكوريا .

(2) فلكي تنجح المشروعات الكبيرة تبقى الإدارة أجنبية ، لدرجة أن نظافة شوارع عهد بها إلى شركة أجنبية.

فماذا عن المجتمعات التي ليس فيها قرآن وهى بالرغم من ذلك أفضل بكثير من حيث القيم السلوكية والإنجازات ؟ الإجابة ..

- إن لديها نظام تعليم جيد (بالمفهوم الواسع ) (1)

- ليس لديها سند خارجي تعتمد عليه وتتحلل من المسئولية بإلقائها عليه ، فتعتمد على نفسها . أما نحن فلدينا عبارة من شقين :

- الأول : افعل .......ولا تفعل ......... وبعدها أو معها يكون :

- الثاني : الله معك ويفعل لك ...........

ولكنا أغفلنا أو تحللنا من الشق الأول وارتكنا واعتمدنا على الشق الثاني .. ولعلمه سبحانه وتعالى بما سيكون عليه حالنا (لأنه يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) .."أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " ......" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " ....."وقل اعملوا " .....وأخيرا ......

"يأيها الذين آمنوا لم تقولين مالا تفعلون " ، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون "..؟ ..."ولكن لهم قلوب لا يفقهون بها ..ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ......وقال الرسول (ص) .. كثير كغثاء السيل .

2-الموضوعية : .

سبق أن عرضنا الموضوعية بمعنى عدم التأثر بالأهواء والعواطف والميول أو العلاقات الشخصية . وقد يعبر عن هذا المفهوم بمصطلح آخر وهو الحياد وعدم الانحياز .ولئن كانت فعالية (أو عمق ) التفكير المنطقي أمرا شاقا ونادرا، وليس من المتوقع ولا من الممكن أن يقوم به الجميع ، وان لم يقم به الجميع فلن يعيق نهضة الأمة طالما أن لديها مجمع طاقة (من هذا التفكير ) يكفى لبلوغ أهدافها، أي أنه ليس هناك عنصر مخاطرة قومية حتمية من عدم قيام البعض به، كما أن الفرد الذي لا يتمتع بالقدرة على هذا النوع من التفكير، أو لا تتوافر له ظروف ممارسته عمليا، فانه ليس محلا للمساءلة أو المحاسبة أو النقد .....فان ...

اعتبار (أو عامل ) الموضوعية أمر آخر فهو أكثر خطورة، وأكثر صعوبة وللأسف أكثر ندرة ولذلك يجدر به أن يحظى منا بقدر أكبر من الاهتمام في التحليل .

إن مفهوم الموضوعية ينطوي على ثلاثة أبعاد ..

ــــــــــ

(1) أي التربية والتعليم والذي يشار فيه ليس فقط المؤسسات التعليمية بل مختلف قطاعات المجتمع (راجع
فصل جودة التعليم ونهضة الأمة )

أ- بعد ديني إسلامي :

فالموضوعية معناها أن تنظر وتدرس وتقيم الأمور والموضوعات بذاتها ولذاتها مستقلة عن أي اعتبار خارجي .. معناها أن ترى الأمور على حقيقتها وغير ملتبسة بأمور أخرى، والحقيقة في حدود قدرة الفرد على إدراكها والتعبير عنها والتواصل بشأنها مع الآخرين، وأداة وهى الحق، والحق هو الله الواحد . أن انعدام الموضوعية معناه التميز الشخصي، وهذا بدوره يحول دون رؤية الفرد لأخطائه ونقائضه من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يرى حقيقة الآخرين، حقيقة الأمور والأحداث والعلاقات ومن لا يتخذ القرارات ولا يصدر الأحكام السليمة الأمر الذي انطوى بالضرورة درجة ما من قصور .. أن ضعف الأداء وينطوي أيضا على درجة من الظلم ، وما أدراك ما الظلم .. ظلمات يوم القيامة ..

ب -بعد أخلاقي عام :

يرتبط انعدام الموضوعية بازدواجية المعايير والمحسوبية والواسطة .. كلنا يشتكى من ازدواجية المعايير على كافة المستويات : مستوى العلاقات الدولية ، ومستوى العلاقات بين الحكام والمحكومين ،ومستوى تعاملات الأجهزة الإدارية مع المواطنين ، ومستوى العلاقات بين الأفراد

وبعضهم البعض . أن غالبية الأفراد يفتقرون إلى الموضوعية بدرجات متفاوتة وان الإحساس العام بين الأفراد يفتقرون إلى الموضوعية بدرجات متفاوتة وان الإحساس العام بين الأفراد بعمومية وسيادة المحسوبية والواسطة والرشوة . (. بالرغم من الجميع يمارسها ) ليعد أخطر الأمراض التي تعرض الانتماء والولاء القومي للتدهور والانحدار ، وما يتبع ذلك من آثار سلبية على كافة جوانب حياة وإنجازات الأمة

ج- بعد إداري سلبي :

إن انعدام الموضوعية (أي التميز الشخصي ) يحول بين دون إدراك حقيقة جوانب القوة والضعف لدى الفرد ذاته ولدى الآخرين الذين يتعامل معهم ، والذين قد يكون منهم من هو منافس أو خصم أو عدو ومن ثم يقلل من كفاءة أو درجة نجاح التعامل معهم، وحتى إن كان منهم من هو شريك أو حليف أو مساعد ومدعم فلن يتسنى الاستفادة الحقيقية من قدراتهم بسبب عدم القدرة على التقييم الموضوعي لقدراتهم , أوجه القصور أو الضعف فيهم(1) هذا

ــــــــــ

(1) لعل في دراسة تاريخ فترة حكم عبد الناصر وملابسات نكسة 1967وأثر طغيان العلاقات الشخصية على
نظام الحكم ودرجة جهوزية الجيش ومن ثم النتيجة المروعة للحرب .

على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي كشركة أو مصلحة حكومية أو الدولة كلها فان يؤدى إلى إسناد الأمر إلى غير أهله وإضعاف شعور الانتماء والولاء للمؤسسة أو الدولة، ومن ثم التأثير السلبي على أداء الأفراد الآخرين ، حتى ولو لم يضاروا بانعدام الموضوعية بشكل مباشر، ولذلك من المتعارف عليه أن المحسوبية أو الواسطة ( والرشوة ) وهى مرادف لانعدام الموضوعية ، تعد من أهم أسباب الفساد الإداري ( أي فساد الإدارة ) على كافة المستويات سواء مؤسسة أو دولة ، أو العالم كله ..

ويحضرني في هذا المقام واقعة تجمع بين الاعتبارين ( عمق وفعالية التفكير، والموضوعية

في أحد الحوارات مع زميل قال : أنا لا يمكن أن أسمح لطالب مسيحي أن يكون ترتيبه الأول حتى لا يصبح معيدا في الكلية، فقلت له ولكن هذا حرام وظلم، قال : انظر ماذا يفعل الأساتذة المسيحيون ..يتلاعبون في الأوراق والدرجات ويذبحون الطلبة المسلمين . فقلت له :حتى ولو .... قال لماذا ؟ قلت : إذا كان الأستاذ المسيحي ليس لديه رادع أن يظلم فليس بهذا أن يخلق لك المبرر لأن تفعل مثله وتظلم .. الأمر القرآني لك صريح ، في عدة مواضع منها :

" يا أيها الذين آمنوا ، إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ،وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "

"وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين "

"ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا ،اعدلوا هو أقرب للتقوى "

وتابعت حديثي معه ..انك بفعلك هذا تجاوزت حدودك مع ربك ، وأدعيت ما ليس لك ،وشاركت الله في إرادته ( دون أن تدرى ..لأنك لم تتفكر في الآيات التي تقرأها " آناء الليل وأطراف النهار " لماذا ؟ لان الامتحان والدرجة هي سبب أما النتيجة فهي أن يكون معيدا أم لا .. وهذا ليس من شأنك ولا تتحكم فيه .. فإذا كان الله يريد له أن يكون معيدا فسوف يكون معيدا رغم أنفك ومهما يفعل، وإذا لم يرد الله ذلك فلن يكون حتى ولو أعطيته حقه وكان ترتيبه الأول ..

فالنتيجة ليست بيد الإنسان ولا يستطيعها لأنها بيد الله وحده ، ولكن الإنسان مكلف فقط بالأخذ بالأسباب المشروعة على قدر الاستطاعة ، وليس هناك علاقة حتمية بين النتيجة والأسباب .. فالنتيجة قد تكون : متواضعة مع الأسباب (وهذا في غالبية الأحيان ) ، وقد تكون بلا أسباب أصلا ، وقد تكون عكس الأسباب .. إن حبك للإسلام ولله لا يكون بعكس ما أمر الله به ولا تكون كالدبة التي قتلت صاحبها بحجر لتبعد عنه الذبابة .

وهكذا نخلص إلى أن......

تخلف الأمة ( أو تدنى درجتها على سلم عظمة الأمم ) إنما يرجع إلى :

نقائص شخصيات الأفراد باعتبارها الأسباب الرئيسية، والتي ترجع إلى جذر واحد وهو :

تدنى أو تضاؤل "استخدام العقل في التفكير المنطقي الموضوعي الفعال "

ــــــــــ

(1) الناس على إطلاقها ،وليس بين المؤمنين فحسب

(2) من المسئول

من هو المسئول عن تخلف الأمة ومن هو المسئول عن بدء حركة نهضتها ؟

يكثر تداول هذا السؤال بشكل ما أو بآخر خلال المناقشات بين الغالبية العظمى من أبناء الأمة .. والإجابة الأثر تداولا هي : الحكام ، الدولة ، النظام .....الخ .

تثار المناقشات والحوارات وفى النهاية، طرف ما غير المتحاورين أو المناقشين هو المسؤول، وينتهي الأمر .... وإذا سأل أحد ما الحل، غالبا ما تكون الإجابة ما فيش فائدة وينتهي الحوار وكل واحد يمضى لحال سبيله ليغرق في مجرى أمور حيته اليومية، وغالبا ما تجرى هذه الحوارات من قبيل التسلية أو ملئ بعض وقت الفراغ في الزيارات أو الأماكن العامة، وخارج هذه الناسبات العرضية لا يوجد وقت للاهتمام أو الدراسة أو التفكير فيها ولئن أعطيت أحدا شيئا ما يقرأه بتعلق تلك الأسئلة لا يجد وقتا لقراءتها أو مناقشتها ... الكل مشغول بأمور حياته اليومية والالتزامات الاجتماعية من زيارات ومجاملات، وبرامج تلفزيونية ومباريات ......الخ هذا هو واقع حال غالبية أفراد الأمة على مختلف فئاتها وطوائفها ..

ظاهريا وللوهلة الأولى نحن لا نختلف مع إلقاء المسئولية الأكبر على النظام أو الحكومة أو الحاكم ، ولكن إذا قمنا بتحليل ودراسة القضية دراسة متأنية متضمنة لوصلنا إلى نتيجة أخرى تمثل تحفظا ( وليس نفيا كليا ) على تحميل المسئولية الكاملة للدولة والنظام أو الحاكم .......الخ وبيان ذلك فيما يلي :

أولا : ما المقصود بالدولة أو النظام ؟ مجموعة من الأفراد والقوانين وتشريعات يضعها (المفروض ) نواب الشعب، وعلى رأس هذه المجموعة من الأفراد رئيس الدولة ثم رئيس الوزراء، المديرون .........الخ وأليس من بين هؤلاء مدير المدرسة، ومدير مصلحة كذا ..، رئيس مركز الشرطة، القاضي ..... الخ . وبالرغم من ذلك فان كلا منهم يشتكى ويقول الدولة والنظام . من هي الدولة في الدولة في نظر طالب المدرسة أو ولى أمره .. الناظر والمدرس، ومن هي الدولة بالنسبة للعامل أو الموظف ؟ رئيس القسم أو الشركة ومأمور المركز ومدير المستشفى ومدير الشهر العقاري وموظف الجمارك وعسكري المرور والموظف في وحدة تراخيص السيارات، وموظف البلدية والتموين والجمعيات الزراعية .......الخ الدولة بالنسبة لكل فرد هي كافة الأفراد الذين يتعامل معهم .. إن حياة الفرد العادي تنحصر غالبا في التعاملات مع عدد محدد من الأفراد .. وبالتبادل .. خذ مثلا هذا السيناريو ..

يذهب شخص ما (أ) إلى مصلحة ما ويتعامل مع (ب) ويواجه مشكلة ما ويخرج (أ) ساخطا على الدولة والحكومة والنظام .وفى اليوم التالي يذهب (ب) إلى مصلحة أخرى لقضاء حاجة ما ويقابل ( أ ) في تلك المصلحة ويتعامل معه .. فإذا واجهته فإذا واجهته مشكلة يخرج من المصلحة ساخطا ويلعن الدولة والحكومة والنظام، وما المقصود بكلمة النظام .. هل هو الدولة ؟ أم القوانين والتشريعات ، فان كانت القوانين والتشريعات .. فمن الذي يضعها ومن الذي يطبقها ؟ عندنا تشريعات جيدة وقوانين ممتازة في أغلب المجالات وباستثناء تلك التي تكرس حكم الفرد وتجرم معارضته .. وكن من يطبقها ؟ الأفراد الذين يشتكون من الدولة والنظام، الدولة والنظام هما .. أنت وأنا وآباؤنا وأِشقاؤنا وأبناؤنا في مختلف مرافق الدولة والنظام .... الدولة نحن والنظام نحن.... ولكن بدرجات متفاوتة حسب الموقع الوظيفي ودرجة التأثير التي يملكها الفرد على من هم دونه في الهيكل الاجتماعي، مع ملاحظة أن درجة التأثير لا تتناسب بالقدرة مع المركز الوظيفي والاجتماعي، فلقد يكون مدرس الابتدائي أكثر تأثيرا في تقدم ونهضة الأمة ومن ثم يتحمل قدرا من المسئولية وقدرا أكبر من فرصة المساهمة في نهضتها أكثر من أستاذ الجامعة أو طبيب في مستشفى

ثانيا : إذا رجعنا إلى مفهوم عظمة الأمم في نهضتها السابق بيانه، نجد أن من مظاهر تقدم الأمة وعظمتها، النظافة والمظاهر الجمالية والنظام في الحياة العامة مثل قواعد السير والمرور في الشوارع وحقوق الانتظار، ومواعيد المصالح الحكومية، واحترام كرامة الإنسان في المصالح الحكومية وأقلام حقوق الآخرين وتطبيق قواعد المحاسبة والثواب والعقاب ......الخ

- فمن الذي يلقى القاذورات والفضلات في الشوارع .....الدولة ؟ الحكومة ؟

- ومن الذي لا يقوم بعمله في نظافة الشوارع ؟ الدولة ؟ الحكومة ؟

- ومن الذي يخرق قواعد المرور والإشارات ويسبب مظهر الفوضى والهمجية في الشوارع
..الدولة ..؟ الحكومة ..؟ ومن الذي لا يطبق جزاءات المرور ويرشو عسكري المرور
والضابط الصديق والمعرفة الذي يرد إليك الرخصة بعد سحبها .. الدولة .؟ الحكومة .؟

وهل هناك من يملى عليك إلقاء الفضلات في الشوارع أو يملى عليك عدم احترام المواعيد . وهل هناك من (أو) يحول دون قيم الموظف بخدمة المواطنين إلا بالرشوة أو الواسطة ..الدولة ..؟

هل هناك من الدولة أو النظام ما يجبر الفرد على هذه التصرفات المنحرفة، وهل هناك ما يمنع الفرد من أن يتصرف بشكل أفضل .. بالقطع لا .. لأن هناك من الأفراد من لا يقومون بهذه التصرفات السيئة ..

هل هناك ما يجبر المدرس على ألا يشرح الدرس إلا في حصص الدروس الخصوصية ؟ المدرس يستغل ويسرق والد الطالب في الدروس الخصوصية، ووالد الطالب يستغل المدرس ويسرقه في التعاملات مع سواء كان تاجر أو سائق تاكسي أو طبيب أو أستاذ جامعة أو رجل شرطة أو أي موظفي مصلحة حكومية أو سباك أو صاحب مخبز ....الخ كل واحد إيده في جيب الآخر، الكل يعانى من انحراف واستغلال الكل، والكل يخرج ويلعن الدولة والنظام، والأدهى من ذلك أن الجميع يبرر لنفسه الانحراف بسبب الانحراف الآخر ..

كل واحد يتخذ المعاناة التي يواجهها مع الدولة مبررا ومسوغا لنفسه في الإهمال والتقصير والهدم والانحراف .. بحجة ..ما هي الدولة كلها كدة .. الدولة حرامية يبقى يسرق ويغش ويهمل ويقصر في واجباته .. على أد فلوسهم .. يعنى ( أ ) ينحرف ويكون مبررا لأن ( ب ) ينحرف وربما يكون ( ب ) هو نفسه السبب في انحراف

( أ ) وهكذا دورة انحراف وانحطاط مستمرة تحت شعار ..الدولة والنظام ..

الجميع يقوم بما يستنكره من الآخرين، والمسئول هو الدولة والنظام .. وقائع يستحيل حصرها، اكتفى هنا بمثالين فقط ..

1- أساتذة الجامعات ( صفوة المجتمع ،أو هكذا المفروض ) وخاصة في كلية الطب، ورجال
القضاء يجب أن يخلفهم أبناؤهم ولو بدون استحقاق عيانا جهارا ، والأنكى من ذلك أن
الكثير منهم يدافع عن ذلك حتى ولو كانوا ممن يدعون الالتزام الديني ويرفعون
الشعارات، ويعتبرونه حقا لهم .. لا أدري كيف يفلحون في إقناع ( أو قل خداع ) أنفسهم
بذلك ..

2- في فترة ما كان هناك امتياز لأولاد أساتذة الجامعات في مسألة القبول بالجامعات ..
وكانوا سعداء بذلك وحينما ألغيت الامتيازات حزن وامتعض الكثير منهم ..لماذا ..؟ أين
العدل والقيم لم يستنكروا ذلك ولم يتخلوا عن تلك الامتيازات . بإرادتهم .. قسرا سحبت
تلك الامتيازات .. وفى فترة أخرى .. لم يكن هناك نهاية لعمل الأستاذ بالجامعة .. يستمر
في عمله حتى الممات ويستمر في التمتع بمزايا أكثر من الأجيال الشابة لدرجة أن الشباب
كان يظل يترقب إزاحة الأستاذ الكبير ولو بتمني الموت له .. لا أحد يترك مكانه ولا
يتخلى عن امتياز إلا قهرا وقسرا . حرب مستمرة بين الكبار والصغار، إذا كان هناك مزايا يتنافس عليها الجيلان مثل إيرادات الكتب أو عائدات أو عائدات إشراف أكاديمي ..وحينما وضع قانون جديد وضع حدا زمنيا لعمل الأستاذ في الجامعة .. عارضة الجميع ولجأ بعضهم إلى القضاء وكسب القضية وظل في عمله حتى ولو لم يكن قادرا صحيا وجسديا على تأدية عمله .

خلاصة المثالين هي أن : كل واحد في مركز ما يتمنى ويسعى لأن يظل فيه إلى الممات ولو أتيح له ذلك لظل فيه ولما تخلى عنه اختياراً، ولكافح وناضل للبقاء فيه بمختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة، ولو أتيحت له الفرصة يورث المركز لأولاده أيضا بنفس الأساليب المشروعة وغير المشروعة . أي أن الطابع العام لسلوك الفرد، في الغالبية العظمى من أفراد الأمة هو :

اقتنص وانهب أكبر قدر ممكن لك ولأولادك وأحفادك ، وأعط أو تنازل عن أقل قدر ممكن دون ما اعتبار لقيم أخلاقية أو قومية .

سرقة وكذب وغش ونفاق وازدواجية في المعايير واستئثار واستغلال في كافة المعاملات بين الأفراد بعضهم وبعض وعلى كافة المستويات (1) .

وما يفعل حكامنا غير ذلك .؟

نفس البذرة الخبيثة موجودة في نفس كل فرد وتختلف ثمرتها حسب المناخ والفص المتاحة .. واحد حرامي لا يجد ما يسرقه سوى مبلغ بسيط كرشوة، أو اختلاس أو اختزال لوقت العمل، وآخر عده الفرصة لسرقة الملايين والمليارات بمسميات مختلفة، وآخر لديه الفرصة ليسرق الدولة كلها .. كله حرامي وكل واحد يسرق ما تصل إليه يده . ما الفرق بين الأستاذ أو القاضي الذي يسعى لكي يخلفه ابنه ولا بدون وجه حق وبين رئيس الدولة الذي يسعى ليورث ابنه ملكية الأمة بسن التشريعات والإعلام وعصابات النفاق ..

والعجيب أنك تجد المنحرف الصغير يثور وينتقد ويسخط على المنحرف الكبير وعلى الدولة .. وهو عنده نفس البذرة الخبيثة .لماذا تحرم على غيرك ما تحله لنفسك ..؟ (2) .

وهل ولد المنحرف الكبير كبيرا .. أبدا .. في يوم من الأيام كان منحرفا صغيرا مثل بقية أفراد الأمة .. كبر وارتقى في مدارج السلطة والقوة وكبر معه الانحراف ..قضية منطقية .. نفس العينة .. هم منا ونحن منهم ولسنا بأفضل منهم .. وهذا ما قاله صاحب جوامع الكلـم

ــــــــــ

(1) الأمن رحم الله وقليل ما هم ، الدرجة أنه لا يحس أحد بوجودهم

(2) ربما دون إدراك أو وعى

(ص) : " منكم يول عليكم " بمعنى إذا كان الحاكم أو ولى الأمر سيئ فالمحكومين مثله أو أسوأ منه، وذلك أيضا بحكم قاعدة الاحتمالات والانتخاب الطبيعي .

ثالثا : إذا غضضنا النظر عن التحليل السابق وافترضنا أن الانحراف محصورة في فئة يطلق عليها ذوو الغفلة والتفكير السطحي إصلاح " الدولة أو النظام " فكم عدد أفراد هذه الفئة 100، 200، ألف .. فماذا عن بقية الشعب ؟ إذا لم تكن البقية منحرفة وتسكت عليها ولا تثور في وجهها أو تقاومها فهذا يجعلها أسوأ من فئة " الدولة أو النظام "

إن الانحراف أمر سيئ ومكروه ولكن الأسوأ منه هو الخنوع والاستكانة والرضى بالدنية بل والاستمتاع بها، وعدم الأخذ بالأسباب المتاحة للتغيير .. إن استعباد الآخرين والاستهانة بهم وبحقوقهم رذيلة وأمر سيئ ولكن الأسوأ منه هو عدم إدراك حقيقة الاستعباد والاستهانة وعدم الإحساس بالمهانة والذلة .. والأسوأ من هذا وذاك هو الإحساس مع الرضا والاستمتاع بالذل والمهانة والإصرار عليها والتهليل والتطبيل لها .. تخيل أن عبداً يعاني من سوء معاملة سيده وتتاح له فرصة التحرر ومع ذلك يرفضها ويصر على أن يظل عبداً .. أيهما أسوأ .. السيد الطاغية أم العبد الذي يستمتع بالعبودية في هذا السياق اذكر واقعة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حينما قال .. إن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني .. فرد عليه فرد من الرعية بقوله .. لو أخطأت يا عمر لقومناك بسيوفنا .. فرد عليه عمر .. الحمد الله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه .. لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فيَّ إن لم أسمعها .

أي أنه إذا كان الحاكم فاسداً أو ظالما أو منحرفاً وظل يحكم والمحكومون صامتون لا يحركون ساكناً بل ويساعدونه بالنفاق فهم أسوأ منه ولا يحق لهم الشكوى ولا حتى الدعاء، ولو أن فرداً يتحكم في مئة فرد رغماً عنهم فهم كالعدم ..

وأولاً يدرك أولئك المحكومين لعشرات السنين من حاكم فرد يرثه ابنه أن هذا معناه الدنية والاحتقار لهم جميعاً .. أو ليس هناك فيهم من هو مثله أو مثل إبنه ؟ إنه لمن الطبيعي أن يسعى كل فرد إلى البقاء في مركز السلطة إلى الأبد ومن الطبيعي أن يسعى لتوريث السلطة لإبنه كما يورث المتاع وذلك كما أسلفنا سابقاً .. ولكن أن تجد من حوله من يقبل ذلك ولا يسعى إلى تغييره .. بل ويهلل ويطبل له ويساعده في ذلك فهو الأسوأ وهذا هو الاستمتاع بالعبودية والذلة والهوان .

ومن ثم نخلص مما سبق أن المسئول الحقيقي هم أفراد الأمة وليس الحاكم وحده .. إن الحاكم ( أي النظام ) الفاسد لا يمكن أن يستمر إلا في ظل أمة أو شعب أفراده إما فاسدون وإما ضعفاء خانعون جبناء ولا يحسون بالذل والهوان بل ويستمتع بعضهم بذلك ويعمل على استمراره .

وتكون الطامة الكبرى أن يجمع الفاسد والانحراف مع الاستضعاف والهوان في نفوس أفراد الأمة، وهذا هو الحال وللأسف مع غالبية أفراد تلك الأمة في غالبية (إن لم يكن جميع) أقطارها .

إن أهمية هذه النتيجة تكمن في أن إدراكها والإحساس بها واليقين بها يمثل نقطة البداية نحو التغيير .. بعبارة أخرى إن الإحساس الذاتي بالقصور والخطا هو البداية للتغيير .. لأنه ..

طالما أن كل واحد منا راض عن نفسه وسلوكه ويبرر بالفعل ( خداعاً لنفسه ) وأن المسئول هو طرف آخر ( الدولة، الحاكم، النظام، .... الخ )، وليس بيده حيلة وأنه مهما عمل فلن يكون هناك نتيجة بسبب كذا .. وكذا، ومن ثم فليس عليه أن يفعل شيئاً فلن يتحرك . وبدون حركة وفعل لن يكون هناك تحسين .. بل إن الأمر سوف يزداد سوءاً، لأنه لا سكون ولا ثبات في أموال الأفراد والأمم، وما لم يكن هناك جهد وعمل للارتقاء فلا بد أن يكون هناك حتماً انحدار في كافة جوانب الحياة .. سواء المادية أو الحضارية أو الاجتماعية أو السياسية .

(3) التغيير

التغيير والتغيير واستحالة الثبات :

يشير لفظ التغيير في مفهومنا إلى فعل إرادي متعمد يهدف إلى أحداث اختلاف في حالة موضوع ما ( أو شيء ما )، أما لفظ التغيير فبشير إلى أثر أو نتيجة أو اختلاف بين حالتين أو وضعين ,قد يكون نتيجة عملية تغيير متعمدة، أو تغير طبيعي أو قهري ..

وتخضع كائنات الأرض جميعا للتغيير بشكل ما أو آخر وبغض النظر عن طبيعة التغير سلبا أو إيجابا . وما يعنينا هنا هو الإنسان .. فكل ما في الإنسان عرضة للتغيير : قدراته الجسدية، والفكرية، والعقلية، وميوله وطباعه ومن ثم علاقاته، وإمكانياته وإنجازاته وفعاليته وقيمته للمجتمع الذي يعيش فيه .

ولذا فان المجتمعات والأمم ( وهى مجموعات من الأفراد ) هي في حالة تغير مستمر ارتقاء أو انحدارا . ونظرا لأن النفس البشرية (أي شخصية الفرد ) تميل بطبيعتها إلى الارتكاس والانحدار إذا تركت على سجيتها، فانه ما لم يكن هناك جهودا متعمدة للارتقاء بشخصيات الأفراد ( ومن ثم إنجازاتهم ) فسوف يكون التغيير في الأمة ( بالضرورة ) في اتجاه الانحدار . ولعل استقراء التاريخ الحديث للأمم، وخاصة الأمة العربية، والاتحاد السوفيتي خير شاهد على هذا التحليل .. فهل الحال في مصر على سبيل المثال هو كما كان عليه من قبل عشرين عاما أو ثلاثين عاما أو خمسين عاما، من كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليم والقيم السلوكية والأخلاقية والحضارية ؟

ولننظر إلى الاتحاد السوفيتي سابقا .. حدث انحدار سريع وفجائي كان ظاهره اقتصاديا وتفكك الاتحاد السوفيتي وتقلص إلى أن يكون روسيا فقط .. وبدأت روسيا تنهض وتستعيد مكانتها اقتصاديا ودوليا ..

إذاً لا ثبات في حالة الأفراد والأمم .. وكلاهما عرضة للانحدار والنهضة إذا وجدت إرادة التغيير .

بطلان مقولة " استحالة نهضة الأمة "

عادة، وعلى مدى خمسين عاما، عندما يثار النقاش حول أسباب تخلف الأمة واحتمالات نهضتها وتقدمها تتراوح المواقف بين اللامبال، ومحبط، ومعوق، والنتيجة التي ينتهي إليها غالبية الأفراد ..ما فيش فايدة ، وينتهي النقاش (العرضي) دون اهتمام بمتابعة النقاش والبحث أملا في الوصول إلى نتيجة مفيدة أو إجراء، أو اقتراح يفيد في تحسين حال الأمة .

وما يعنيني في هذا المقام هو بيان بطلان تلك المقولة وذلك الاعتقاد آملا اجتثاثه من عقول أكبر عدد من الأفراد .. لأنه ببساطة يعنى اليأس والذي بدوره يقتل القدرة على الحركة والفعل ، ومن ثم يستحيل تحقيق أي تقدم .. ورغم أن هناك العديد من الصعاب والعقبات أمام أي حركة تغيير أو نهضة إلا أن ذلك الاعتقاد هو أخطرها جميعا .

سبق أن أوضحنا الميل الطبيعي لدى الغالبية لدى الغالبية العظمى من الأفراد إلقاء مسئولية التخلف على الغير .. النظام الدولة، الحكومة والحاكم ....الخ وطالما أن ذلك الغير غير صالح وليس هناك وسيلة إلى تغييره، إذا فالنتيجة التي تصل إليها تلك الغالبية هي أنه ما فيش فايدة .. تلك النتيجة التي نعتقد أنها ما هي إلا امتدادا لظاهرة التحلل من المسئولية لظاهرة التحلل من المسئولية وراحة النفس أو قل تخدير الضمير، ولعل اليقين بتلك المقولة " ما فيش فايدة "صراحة أو ضمنا هو السبب في أننا لا نجد اهتماما ملموسا ببحث " نهضة الأمة" في الكتابات والحوارات واللقاءات الفكرية من مؤتمرات وغيرها .

ونعتقد أنه يمكن ابطال أو دحض تلك المقولة من زاويتين :

1- إن أصحاب تلك المقولة يحكمون على المستقبل " عدم إمكانية حدوث تغيير ايجابي في المستقبل " بناء على المعطيات الحالية ، وهذا صحيح ومقبول ومنطقي .. أي أنه لو أن ما نراه الآن ساد في المستقبل، وتركت الأمور على حالها فلن يكون هناك تحسن في المستقبل، ولكن وكما سبق أن بينا أعلاه لا ثبات في شخصية الفرد ومن ثم لا بد أن يحدث تغير ما في حالة الأمة ( والتي هي مجموعة من الأفراد ) . وبالتالي فان الافتراض بأن ما يحيط بنا الآن من سلبيات ونقائض وعقبات سوف يستمر في المستقبل، هو افتراض غير منطقي، إذ لا بد أن يحدث هناك تغير في الأفراد ومن ثم الأمم سلبا أو إيجابا

2- هل الفرد في هذه الأمة (دون غيره من الأفراد في الأمم الأخرى على مر التاريخ محصن ضد التغيير إلى الأفضل ) ولماذا ؟ لا يمكن القول ولا القبول بذلك إذا ما كان هناك إحساس بالتخلف ومعرفة أسبابه وكانت هناك استراتيجية الملائمة والإرادة والفعلية لتنفيذها .. وإذا ما تحسن حال الأمة ..

ومن الأدلة الدامغة والتي لا تحصى ولا تعد على صحة ذلك .. المقارنة بين الجندي والضابط المصري في سنة 67 وبينه في سنة 73 ..نفس الفرد في 67 الحق أفدح هزيمة في التاريخ الحديث، وهوى بأمته على درجات سلم العظمة، وهو نفسه الذي حقق أعظم انتصار عسكري وحقق المعجزات وارتفع بأمته على سلم عظمة الأمم(1) لماذا ؟ لأنه حقق الاعجازات خلال هذه الحرب باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء .. تدبر هذا التغيير الجذري لنفس الفرد في فترة 7 سنوات إن الروح والإرادة اللتان سادتا الجيش المصري في حرب 73 أمكن تكرارهما وامتدادهما أي كافة قطاعات الحياة المدنية لصعدت مصر إلى مكانة على سلم عظمة الأمم تفوق خيال أكثر الناس تفاؤلا .. وما تحقق مرة من فرد ما لا يستحيل تكراره المطلوب فقط هو :

- إدراك تدنى وانحطاط المركز الحالي في مختلف المجالات .

- إدراك المقدرات والإمكانيات والطاقات الكامنة لدى الأفراد .

ــــــــــ

(1) بغض النظر إهداره في مراحله الأخيرة وعدم استغلاله سياسياً بشكل جيد .

- روح التميز والتحسن والارتقاء لدى الأفراد، أي الرغبة واليقين بإمكانية وضرورة التحسين .

- الإرادة والعزيمة لبدء العمل الفعلي : التخطيط الاستراتيجي وجدية التنفيذ .

منهج التغيير :

هناك منهجان للتغيير: إما من قمة المجتمع (أي البدء بالحاكم أو النظام ) أو من قاعدة المجتمع أي المحكومين .. وترى الغالبية أن البداية تكون من القمة، أو الرأس، أي تغيير النظام الحاكم ثم بعد ذلك يأتي إصلاح المحكومين . ومن العبارات الشائعة في هذا الصدد :

- إذا فسدت الرأس فسد الجسد كله .

- إذا صلح الراعي صلحت الرعية .

- إذا كان رب البيت بالدف ضاربا .

ونحن لا نختلف أساسا وظاهريا مع تلك المقولات، إلا أنها لا يجوز أن تؤخذ على إطلاقها باعتبارها القول الفصل في القضية .. إذ أن عليها تحفظات نبينها في التحليل التالي :

بالتأكيد إذا كان هناك نظام حاكم .. يتبنى منهج التحسين والتغيير فانه سوف يكون عنصر مساعد ويزيد فعالية التغيير ويختزل فرص الإنجاز، وإذا كان النظام الحاكم مناهض للتغيير فانه يزيد من صعوبته وقد يجعله مستحيلا .. ومن الطبيعي أن النظام الحاكم في أي أمة متخلفة أو في الدرجات الدنيا من سلم العظمة ليس نظاما جيدا .. فما هو الحل اذن .. من الذي سوف يغير النظام أو أن يتحرك الأفراد للتغيير أو ماذا ؟ ننتظر المعجزة الإلهية ليتغير النظام دون ما حركة من الأفراد ..؟ باستبعاد خيار "المعجزة الإلهية "، لن يتغير النظام ما لم يتوافر لدى الأفراد بعض خصائص عظمة الشعوب مثل : الإحساس بالقيم والرغبة في التميز والارتقاء والرادة والاستعداد للتضحية والشجاعة .....الخ .

ولكن لو كانت شعوب الأمة تمتلك تلك الخصائص لما ظلت مستبعدة من حاكم فرد لعشرات السنين تحت أي مسمى .. ملك، أمير، رئيس .. ولما ظلت ثرواتها تنهب من قبل فئة قليلة تساعد ذلك الحاكم وتدعم استمرار استعباده للشعوب ..

المشكلة في أمتنا .. أن الحكام غير صالحين والمحكومين فيهم نفس عيوب النظام والحكام ( أي البذرة الخبيثة ) ويضاف إلى ذلك عدم الوعي أو إدراك ما هم فيه من امتهان وإذلال واستغلال ، ومن يدرك تلك الحالة يقتله الجبن والخوف ولكي يريح نفسه ويتحلل من المسئولية .. ما فيش فايدة .. والله قادر على كل شيء .. إذا ننتظر المعجزة .. وليس على الفرد مسئولية ،وليس له من الأمر شيء ..

وحتى لو فرضنا تحقق المعجزة وجاء حاكم صالح ..نقول أنه ليس من الضروري أنه إذا كان هناك حاكم صالح فان صلاح الأفراد وليس أمرا أكيدا، فلقد يكون الحكم صالحا، ولكن قد تكون قوى داخلية وخارجية تحارب الإصلاح وتقاوم التغيير ويفشل الحاكم فى احداث التغيير . أي أن صلاح الحاكم لا يكفى وحده، بل يجب أن يكون الأفراد على درجة من الصلاح كحد أدنى لكي تؤتى جهود الحاكم ثمارها .. ونذكر في هذا الصدد ما ورد عن أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب " من أنه في آخر أيامه كان يدعو .. "اللهم أنى قد مللتهم وملوني فاقبضني إليك "

مما سبق نخلص إلى أن :

أ – لكي يتغير النظام أو الحاكم لا بد : إما وجود شعب جيد أو وجود معجزة

ب – لو كان الشعب جيدا لما ظل الحاكم غير الصالح في مكانه

ج – استمرار الحاكم غير الجيد أو غير الصالح دليل على أن الشعب غير جيد

د- لو حدثت المعجزة وجاء حاكم صالح وكان الشعب غير جيد (بدرجة ما كحد لأدنى ) فلن
ينجح الحاكم الصالح في إحداث التحسين ..

وأقول لأولئك المتعللون المتحللون من المسئولية بتبني منهج ضرورة التغيير من أعلى (الحاكم والنظام) .. إن هذا المنهج أيضا يتطلب أن يكون لدى الأفراد حدا أدنى من : الإدراك والإحساس، والقيم والإرادة والشجاعة لكي يساعدوا الحاكم الصالح، أو أن يغيروا الحاكم غير الصالح .

ولكن ماذا لو لم يتوافر لدى الأفراد ( أو الشعب ) هذا الحد الأدنى من القيم السلوكية والحضارية ، ولا تتوافر لديهم الإدارة والشجاعة والاستعداد لدفع الثمن والتضحية ؟؟

في هذه الحالة لا مفر ولا بديل إلا أن يبدأ التغيير من أسفل بالأفراد أي أن يبدأ حركة التغيير بإصلاح شخصيات الأفراد أنفسهم، ودون انتظار معجزة قد لا تتحقق ..بل أنها لن تتحقق لو ظللنا على حالنا وما لم نحاول إصلاح أنفسنا .. وهذا ما قاله صراحة " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " .. إذا التغيير لا بد أن يأتي من أسفل بتغيير الأفراد .. بتغيير شخصياتهم ومن ثم تصلح تصرفاتهم وهذا سوف يؤدى إلى صلاح الحاكم ويكون الضمانة ضد فساده . لأن لو أن الأفراد صالحين وفسد الحاكم لقوموه أو استبدلوه .. والعكس صحيح ونكرر ..

إن بقاء الحاكم الفاسد أو غير الصالح (من أي وجه من الوجوه ) في مكانة ليعد دليلا على فساد أو عدم صلاح الأمة، إما لأن أفرادها منحرفون وفاسدون مثل حاكمهم أو أن أفرادها كالعدم أو مجموعة من العبيد الذين لا حول لهم ولا قوة، مجموعة من الأصفار، والمدخل الوحيد لإصلاح هذه الأمة هو :

هو إصلاح شخصية أفرادها (أو إعادة تربية الفرد )

ولا مكان ولا أساس من منطق للتعلل أو التحلل من المسئولية، أو خداع النفس بمخدر مقولة : التغيير يبدأ من رأس النظام ، وانتظار المعجزة .

ورغم إيماننا بهذه النتيجة فانه ينبغي أن نوضح ونؤكد :

إن المنهجين ليسا متناقضين ولا منفصلين ، الاختلاف هو في نقطة البداية ودرجة اليقين والضمان والوقت اللازم لتحقيق تقدم ملموس على طريق النهضة ،وتتحقق أفضل النتائج من حيث السرعة وفعالية التغيير، إذا تغير الحاكم سواء بفعل الأفراد أو المعجزة، وتضافر الحاكم مع جهود تغيير شخصية الأفراد .مما لاشك فيه وبالقطع فان وجود حاكم صالح وجيد ونظام صالح يعجل بالنهضة، والعكس صحيح، فالنظام الفاسد أو غير الصالح من أي وجه من الوجوه (مثل الديكتاتورية والقهر والاستغلال والكذب أو الخداع والتزوير أو انعدام روح التميز والعزة واحترام حقوق الأفراد والثقة في قدراتهم .......الخ ) فان ذلك يعرقل جهود الإصلاح في شخصية الأفراد ويزيدان من صعوبتهما وبالتالي يتطلب الأمر وقتا أطول وجهدا أكثر .. ومع ذلك لا مفر ولا بديل عن تلك الجهود والتي يجب أن تبدأها مجموعة ما من الأفراد ،وهى تلك التي يقول عنها الله سبحانه وتعالى .."ولتكن منكم أمة(1) يدعون إلى الخير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " والخير هنا ليس مقصورا على العبادات أو الصدقات .. ولكن الخير هو كل شيء جيد في شخصية الفرد والمعروف هو كل ما يصدر عن تلك الشخصية الجيدة من تصرفات حسنة ، والمنكر هو كل شيء سيئ في تلك الشخصية وما يصدر عنها من تصرفات سيئة .

طبيعة ونمط التغيير :

إن تغيير شخصية الفرد، وما يصدر عنها من تصرفات لأصعب الأمور، ولذا قال رسول الله (ص) بعد إحدى الغزوات " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ويقصد بالهاد الأكبر هو جهاد النفس وإلزامها بسلوك معين في الحياة .. وهذه حقيقة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلئن تطلب من شخص ما أن يذهب إلى القتال وهو يعلم أنه غالبا قد لا يرجع حيا، أهون عليه من أن تطلب منه الالتزام بسلوكيات معينة أو نمط حياة معين ..

ــــــــــ

(1) ولكن من تكون هذه الأمة .؟ ! ولماذا لا نكون أنا وأنت منها .؟!

لذا فان التغيير يحدث ببطء وتدريجي ولا تستعجلن النتائج، ولا تقع في حفرة اليأس والقنوط، ولتؤمن أي جهد مهما صغر يساهم بقدر ما من التغيير، وأن نهضة الأمة تتحقق من تجميع تلك المساهمات الصغيرة التي ربما لا يحس بها عامة الناس ، فالأنهار هى مجموعة من القطرات ، والجبال هي مجموعة من حبات الرمل والحصوات الصغيرة .

ومن الناحية الإيمانية .. أنت مسئول عن المساهمة قدر استطاعتك ولن تحاسب على النتيجة، والتي هي بيد الله وحده يصنعها كيف يشاء، بك أو بغيرك وبسبب ما أو بلا سبب، فهذا ليس من شأنك .. ولئن كان توقع النتيجة ورؤيتها دافعا لك على العمل أكثر من وعد الله بالجزاء في الآخرة، فتكون قد وقعت في دائرة الشك في وعد الله .. فان كان هدفك حقيقة هو أجر الله، ومن الله عليك بإخلاص النية وإخلاص العمل يكون أجرك قد تحقق بمجرد النية وصدق العزم وبدء العمل حتى ولو لم تتحقق النتائج ..بل وحتى إن لم تستكمل العمل ..

استراتيجية التغيير ( النهضة )

تذكر بأن الهدف النهائي هو التحسين في مكانة الأمة على درجات سلم العظمة من خلال :

تحسين سلوكيات وتصرفات أكبر عدد ممكن من أفراد الأمة، وذلك من خلال تغيير شخصيات الأفراد من الواقع الحالي إلى نموذج شخصية(1) يساهم في تحقيق الهدف النهائي ألا وهو " عظمة الأمة " وهكذا فان الهدف العملي المطلوب تحقيقه هو ..

تغيير شخصية أكبر عدد من أفراد الأمة في ضوء نموذج معين ..

كيف يتسنى ذلك .؟ تمثل الإجابة على هذا السؤال ما نقصده بالاستراتيجية .. وقبل الاستطراد فى بيان الاستراتيجية نود أن نؤكد : إن الهدف النهائي والأهداف الفرعية التي تقود إليه هو هدف عظيم وأصعب من أي نشاط بشرى على وجه الإطلاق ومن ثم فهو يخرج عن طاقة أي فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد .. وان كل ما قيل في هذه الورقة وما يمكن أن يقال ما هو إلا قطرة في محيط ، وليس قطرة في الواقع، بل مجرد محاولة لقطرة في هذا المحيط .. وقد تنجح تلك المحولة وقد تفشل ..

ــــــــــ

(1) سوف نطلق عليها فيما بعد اصطلاح " الشخصية المستهدفة " أى التى تهدف الوصول اليها .

ولذا فان كل ما تتضمنه تلك الورقة عن نموذج الشخصية المستهدفة أو عن استراتيجية تحقيق ذلك النموذج هو مجرد أفكار بدائية كأساس للمناقشة والتطوير والتحسين وهى بمثابة الحد الأدنى لأداء واجب الأمانة والمسئولية تجاه الأمة والله . وفى إطار هذه الحدود والتحفظات، تنطوي الاستراتيجية على العناصر التالية :

ــــــــــ

(1) قال رسول الله (ص ) : الخير في وفى أمتي إلى يوم القيمة

أولا :-بناء نواة التغيير والنهضة :

إن في كل وطن من أوطان الأمة عدد معين من الأفراد المؤهلين} لريادة حركة النهضة، وذلك مهما بدت قاتمة ( أو سواد ) الصورة(1) وربما لا يدرى بعضهم عن بعض شيئا .. بل وربما لا يدرك الفرد منهم في نفسه الأهلية للمشاركة الايجابية في مشروع نهضة الأمة ،فمن المعلوم أن الكثير من الناس، كل منهم لديه قدرات هائلة ولكن لا يدرك وجودها، وتحتاج فقط إلى بعض الظروف والعوامل الخارجية إلى اكتشاف تلك القدرات والطاقات واستخدامها في أفضل استخداماتها . ولذلك فان الخطوة الأولى في الاستراتيجية المقترحة تتمثل في استكشاف أو البحث عن هذه العناصر أو الأفراد التي تتوافر فيهم خصائص الشخصية المستهدفة، ثم إجراء التواصل بينهم والتنسيق فيما بينهم ليكونوا ما نقول عنه أنه "نواة النهضة " والتي تكون بمثابة الخلية الأولى أو اللبنة الأولى في بناء " الأمة العظيمة "

ولن كيف تتم أو تجرى عملية الاستكشاف والبحث هذه .؟ بالمفهوم المتقدم تجرى هذه العملية من خلال هذه الورقة .. فكل من يحلم لأمته بالعظمة بالمفهوم المتقدم ويحس بأنه حلم حياته وتجد مقومات الشخصية المستهدفة هوى وقبولا في نفسه (1)، فهو مؤهل لأن يكون من عناصر تلك النواة وتلك الخلية ..

ومن المهم أن ندرك أن هناك درجات متفاوتة من طموح الأحلام، وهناك درجات متفاوتة من كل من خصائص الشخصية المستهدفة وأن هذه الدرجات ليست متفاوتة فحسب .. بل ومتغيرة في نفس الفرد من وقت لآخر وحسب الظروف المحيطة .. ولذلك لا نفترض ولا نطلب ولا نتوقع أن يكون الأفراد على نفس الدرجة أو أن لديهم مستوى متميز منها، بل يكفى مجرد القبول والارتياح المبدئي والاستعداد للمشاركة الايجابية بأي قدر في أي جانب من
ــــــــــ

(1) فهذا معناه أن لديه قدرا مقبولا من تلك الخصائص .. أي أنه على نفس الطريق .. بغض النظر عن مدى
تقدمه فيه

(2) وهو انتشال أمة من الحضيض إلى عنان السماء ..من الدنية إلى العظمة ..

جوانب عظمة الأمة من خلال أي من خصائص الشخصية المستهدفة .. ولقد يتساءل أحد ..هل يكفى مجرد القبول والارتياح والاستعداد للمشاركة ليكون الفرد أحد عناصر الخلية الأولى لأعظم عمل إنساني ( أو بشرى ) (2) نقول ..نعم ونعم ونعم ..

لنفرض أننا نقيس طاقة النهضة لدى الفرد بقياس كمي من 100 درجة، وطاقة الأمة على النهضة بمجموع طاقات أفرادها .. فلو أن هناك 10 أفراد ومستوى كل منهم، مثلا 40% وظل كل منهم بمفرده لا يدرى عن الآخرين شيئا، فلن يمكن لأي منهم من إنجاز أي تقدم وتكون طاقة الأمة صفر ولكن إذا التقى هؤلاء العشرة وبدأو العمل الفعلي، فان مستوى كل منهم سوف يرتفع وترتفع الطاقة الكلية للمجموعة والأمة .. فكم من بلايين البلايين من قطرات الماء تهدر بلا جدوى ولكن حينما تتجمع تلك القطرات في مجرى نهر تحيا بها الأرض من بشر وحيوان وزراعة وكهرباء وصناعة وتتحول إلى طاقة خارقة لا تقوى على صدها أقوى السدود والموانع وأعتاها المهم هو التجميع والتنسيق (وهذا هو بمثابة مجرى النهر ) وبدء العمل الفعلي .. في أفضل الاتجاهات المرئية على أن تكون هناك عملية مراجعة وتقييم وتحسين مستمرة ، وأقول للمرة الثالثة بدء العمل الفعلي وفى أي اتجاه وفى أي جانب وبأي قدر إلى أن يثبت أن هناك مجال أو سبيل آخر أفضل، وحتى ولو ثبت بعد ذلك أننا كنا نسير في الطريق الخطأ ..أن الطريق الصواب لا يتبين بالسكون والانتظار والتوقف واللا فعل ولعل هذه النقطة تعد من أخطر النقاط التي تناولتها هذه الورقة ..أنها ظاهرة العجز التي تعم أو تقود هذه الأمة

فغالبا حينما تطرح فكرة ما تجد الإجابات كلها تصب في نهر واحد " المستحيل " سيل من العقبات المفترضة والعوائق والاحتمالات والانتقادات للفكرة والمناقشات المعوقة والتي تنتهي إلى وأد الفكرة وتأديب صاحبها ألا يعود لمثلها أبدا . كل واحد يريد أن يتيقن مسبقا من كمال الفكرة أو المقترح وأن يرى البناء مكتملا خاليا من الأخطاء والقصور وأيضا خاليا من العقبات وأيضا سهلا بلا مشقة وبلا تضحيات وبلا محاولات وبلا احتمالات للإخفاق والفشل .. وهذه كلها حجج ومبررات لكي يتحلل الفرد من مسئولية العمل .. مجرد خداع للنفس .. ليس هناك ما يفعله .. ومن ثم لا مساءلة ولا لوم وكل يمضى في طريقه .. طريق البقاء والحياة مهما كانت توعيتها ومهما ك

أنت حالة الأمة .. تلك الأمة .. التي لا تشغل له بال أصلا سوى التباكي على حالها وإلقاء العبء والمسئولية على ذلك " النظام والحاكم والدولة وأعداء الأمة والغرب ......الخ ..تباكى ..وإلقاء المسئولية على ..طرف آخر .. وتمضى الحياة كما هي .. ليس لنا ولا علينا من الأمر شيء.. تلك هي ظاهرة العجز والمستحيل . وأول معول لهدم تلك الظاهرة هو ..البدء بالعمل الفعلي في أي مجال وفى أي اتجاه .. ذلك هو المتطلب الأول من عناصر النواة كأول خطوة في استراتيجية التغيير والنهضة .

ثانيا : محاور عمل ( أو مجالات عمل ) نواة النهضة : هل من أهم تلك المحاور أو المجالات ما يلي :

أ - حيث أن عناصر نواة النهضة ليست على نفسه الدرجة من اكتمال الشخصية المستهدفة
فتتمثل المهمة الأولى في التحسين والتطوير الذاتي المستمر لبلوغ مستويات أعلى من
اكتمال الشخصية المستهدفة، هذا مع العلم أن ليس هناك حدا أعلى ملموس يمكن أن نصل
إليه ونقول ها قد وصلنا وأصبحنا الشخصية الكاملة .

ب - تقديم القدوة السلوكية في أرض الواقع بما يتفق ومقومات الشخصية المستهدفة ..

ج- الترويج لمشروع النهضة وخاصة ذلك الجزء الخاص بتغيير الشخصية لأكبر عدد ممكن
من الأفراد .. أو اختصارا ممارسة الدور التربوي العملي والسلوكي بين أفراد الأمة
وهذا معناه النمو واتساع دائرة النواة باستمرار ومن ثم التحسن التدريجي (مهما بطئت
وتيرته ) في طاقات الأمة على النهضة .

د- التفكير والبحث والابتكار في جميع السبل والاقتراحات التي يحتمل أن تؤدى إلى أي تحسين مهما صغر في أي من المجالات الحياة على أرض هذه الأمة (الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، والسياسية، والعسكرية، والحضارية ........الخ، أي أن تعد هذه النواة في البداية بمثابة النواة لمركز أبحاث ينمو ويتطور ويتسع مع نمو واتساع دائرة النواة ليعطى الأمة بأسرها وتصل إلى الدرجة التي يكون فيها كل فرد أو غالبيتها مركز بحثي يفكر كيف يساهم في تحسين ما في جانب ما من جرح عظمة الأمة .. حلم لا بد منه لكي نسعى إلى تحقيقه .. وبدون ذلك لن يكون هناك نهضة .. بل تدنى وارتكاس

ثالثا : عناصر نموذج الشخصية المستهدفة ..

يمكن استخلاص عناصر (أو مقومات ) تلك الشخصية من البنود السابقة في هذه الورقة ، وخاصة تلك التي تتعلق للمجردات عظمة الأمم وأسباب التخلف ، ويمكن إجمال أهم تلك العناصر والمقومات فيما يلي :

1. الانتماء والولاء للوطن والأمة : والتحلل من كافة الانتماءات الأخرى والتي غالبا ما تؤدى إلى تعدد الجماعات ونشأة الاختلافات بينها وتنتهي غالبا إلى تغليب الانتماءات الحزبية على الانتماء القومي .. وينطوي مفهوم الانتماء والولاء القومي على : الوحدة بين المصلحة الشخصية، أي أن ينظر الفرد إلى مصلحة الأمة كأنها مصلحته الخاصة المباشرة، وإذا حدث تعارض بين المصلحة العامة وبين المصلحة الخاصة المباشرة، كانت الأولوية للمصلحة العامة ..كذلك الجندي الذي يحارب في سبيل وطنه فهو يدخل المعركة مدركا أن احتمالات موته أكبر من احتمالات حياته ..ومع ذلك يدخل في سبيل ما آمن به ..كذلك كل فرد من الأمة في موقعه وليدرك أن تضحية بسيطة في موقعه المدني الآمن قد تكون أكثر أهميه ( رغم الأمن وانعدام المخاطرة ) من تضحية الجندي بحياته .. لأن نفقد ألف جندي أو عشرات الآلاف .. أو نفقد آلاف الأمتار المربعة من الأرض لأوهن من أن تفقد الأمة عزتها وكرامتها وعظمتها ..تلك العظمة تبنيها وتحققها مساهمات بسيطة وتضحيات قليلة يقدمها سائر أفرادها في مواقع حياتهم وأنشطتهم المدنية خارج ميدان القتال .

2- سيادة روح التميز والارتقاء والثقة بالنفس والمقدرات الذاتية ( بعد الله ) والطموح المستر ..

3- قوة الإرادة والعزيمة والإصرار على مواجهة التحديات والصعاب وعدم الرضا بالدنية وعدم القبول بالاستسلام للعجز والتسويف والتعلل بالحجج والمبررات

4- التنمية المستمرة للقدرات الذاتية للفرد وللآخرين (كأنهم الجزء المكمل لشخصية الفرد، في مجالات التعليم الجيد واكتساب المهارات المهنية التطبيقية

5- الجدية والالتزام والانضباط في مراعاة ..

أ- القواعد والإجراءات والقوانين التي ترتبط بأي من جوانب عظمة الأمة .

ب- المواعيد .

ج- حقوق الآخرين في الأماكن العامة (الصفوف )

د- النظافة الشخصية وحسن المظهر ونظافة الأماكن العامة .

هـ- جودة الأداء في الإنتاج والخدمات وكافة الأنشطة والأعمال

6- الالتزام بروح الجماعة والوحدة والتعاون .

7- الايجابية والمبادرة

8-التفكير الابتكاري الخلاق في حل المشكلات العامة ومشكلات الآخرين

9- الاستمتاع بالعطاء والتضحية وإنكار الذات وخدمة الآخرين

10- الصدق والأمانة والشجاعة في قول الحق والعمل به والإيمان بتلك القيم والدفاع عنها

11- كراهية الذلة والمهانة والاستضعاف والامتهان من قبل الآخرين وعلى كافة المستويات
سواء للفرد ذاته أو للآخرين أو للأمة

12- الرحمة والعطف والإحساس بمعاناة الآخرين

13- حسن استغلال الموارد والمحافظة عليها وعدم إهدارها ، وأهم هذه الموارد :

أ- الوقت، فالوقت هو الحياة ولسوف يسأل كل منا عن عمره فيما أفناه

ب- موارد الأمة المادية، وخاصة المياه والأرض والطاقة والممتلكات العامة .

ج- المعرفة والمعلومات والقدرات والمهارات سواء بالنسبة للفرد ذاته أو الآخرين

14-العدل والموضوعية في إصدار الأحكام والفصل بين المتناقضات وتقييم البدائل واتخاذ
المواقف والتجرد من الهوى والميول والعلاقات الشخصية ..

رابعا : ضوابط عمل النواة :

ونقصد بها بعض الاعتبارات الواجب مراعاتها خلال عمل النواة أو خلال مسيرة النهضة في مختلف مراحلها . وهذه الاعتبارات قد سبقت الإشارة إليها في مواطن متفرقة من هذه الورقة ونجمعها ونسوقها هنا على سبيل التركيز على أهميتها :

أ- عدم الإنجرار أو الانزلاق إلى أشكال التنظيم الرسمي ..بعبارة أخرى .. عدم وجود هوية
..أو ذاتية مثل المنظمات أو الحركات أو الأحزاب ....الخ ويكون التواصل بين عناصرها
في شكل ملتقى أو ندوة أو مؤتمر يدرس ويوصى ويقوم الأفراد بتنفيذ التوصيات .. وذلك
دون وجود انتماءات أو ارتباطات بمنظمات أو جماعات أخرى .. لا عضوية ولا رئاسة
.. مجرد جهد تطوعي للتنسيق كسكرتارية مؤتمر أو ندوة

ب - عدم اتخاذ مواقف ثابتة من المنظمات أو الأحزاب أو أي طرف كان ..لا مواقف تأييد
أو معارضة ثابتة ..ولكن يجب أن يكون هناك معارضة أو تأييد لتصرفات وأحداث أو
مواقف أيا كان مصدرها وذلك وفقا لتأثيراتها النهائية على أهداف واستراتيجية النهضة.

جـ - التكامل الجزئي وتراكم المساهمات .. بمعنى الاستفادة والاستعانة بأي درجة توافق من
أي طرف وليس من الضروري أن يكون اتفاق تام مع ذلك الطرف ..فلو أن هناك فرد
ما أو فئة مناهضة أو مضادة، وصدر عنها تصرف ما وحيد جيد يخدم الهدف
والاستراتيجية فيجب الاعتراف به وقبوله والاستفادة منه، وهذا تأكيد للنقطة السابقة ..
فنحن يعنينا التصرفات العملية، وكل تصرف يقيم على حدة، وبغض النظر عن مصدر
هذه التصرفات العملية، وكل تصرف يقيم على حدة، وبغض النظر عن مصدر هذه
التصرفات والسلوكيات .. هذه النقطة كفيلة بتحقيق قدر أكبر من التوافق والوحدة
والتكامل بين طوائف المجتمع ومن ثم زيادة درجة الايجابية والفعل والبناء .. وهذا
عكس ما يسود الأمة هذه الأيام .. أحزاب وطوائف وجماعات ..كل منها لا يرى سوى
سلبيات ونقائض الآخر ولا يعترف له بفضل ولا يرى له أي نقيصة أو قصور في
نفسه .

د - اعتبار كل جانب من جوانب الشخصية المستهدفة كهدف فرعى يجب العمل على تنمية
وقياسه وتقييم التقدم فيه سواء في الفرد ذاته أو في عناصر النواة أو في الأمة، ووضع
الخطط والإجراءات ( أو الاستراتيجية ) لتحقيق أعلى مستوى منه.

هـ - ارتباطا بالنقطة السابقة ..ليس هناك حدا أقصى منظور لدرجة التحسن يمكن التوقف
في أي من المجالات ، بل كما يقول اليابانيون .. السماء هي النهاية .

و - وأخيرا وهو الأهم :

ليس هناك حدا أدنى لمقدار المساهمة في مشروع نهضة أو عظمة الأمة من أى فرد أو مجموعة من الأفراد تحت أي مسمى .. فعلى سبيل المثال :

- لئن جاهدت نفسك وامتنعت عن إلقاء ورقة في الشارع تكون قد ساهمت فى صنع بلد نظيف، وأليست النظافة من سمات الأمم العظيمة .

إن القمامة ( أو القذارة ) التي تملأ شوارعنا وتؤذى مشاعرنا وتسيء إلى سمعة بلدنا وصورتها في أعين الآخرين، ما هي إلا مجموعة من الأوراق والفضلات أو المخلفات، ألقاها أشخاص مستهينين بها، فلو امتنع كل من هؤلاء عن إلقائها أصلا، حتى لو وضعوها في جيوبهم حتى تصل إلى مكان مخصص لذلك، لأصبحنا أمة نظيفة بدلا من أن يقال علينا يقال علينا " شعب قذر " إن قيمة الولاء هنا هي أن توقن في نفسك أن نظافة الشارع أولى وأهم من نظافة جيبك أو حقيبتك أو ثيابك . ولئن يقال مصر بلد قذر .. هذا إذا كان لمصر قيمة حقيقية في نفس وعقل ذلك الفلان .. هذا هو الولاء والانتماء القومي ..

ولئن حرص كل منا على أن يقلل هدر لتر من الماء يوميا يكون قد ساهم بقدر ما في زراعة قطعة من الأرض، أو أحيا أرضا ميتا(1) وهل الأنهار والأمطار سوى مجموع من قطرات (وليس لترات ) من الماء ..

ولئن جاهد كل منا نفسه لتحويل دقيقة من الوقت الضائع في اللهو والعبث فيما لا يفيد إلى دقيقة منتجة لزادت قدرات الأمة ..وهل حياة الأفراد فيها سوى مجموع من الدقائق هذان العنصران "الماء والوقت " هما أهم عناصر الحياة ..

ــــــــــ

(1) يقال ان حروب المستقبل سوف تكون حروب الماء

وهكذا مع كافة مقومات الحياة والتقدم وعظمة الأمة ..

فهناك علاقة مباشرة بين كل من الشخصية المستهدفة وبين عظمة الأمة وبالتالي فان كل تحسين في أي منها مهما صغر يكون بمثابة مساهمة في صرح عظمة الأمة ..

ليس هذا فحسب ..بل إن مساهمتك في ذلك الصرح لا تقتصر على أداء تلك التصرفات والأفعال .. بل انك لو حرصت على الترويج هذه الاستراتيجية بين الأفراد ونجحت في إقناع فرد واحد للافتداء بك في مثل هذه التصرفات والأفعال تكون قد ضاعفت مساهماتك بل وأكثر من ذلك .. فانك لا تدرى مدى تأثير كلمة واحدة تقولها في هذا الشأن .. فلقد تنتشر هذه الكلمة إلى آفاق مكانية وزمانية لا يعلمها إلا الله ، ويكون لك فضل وأجر عن كل من تصل إليه هذه الكلمة وسواء عمل بها أو لم يعمل بها .. وصدق رسول الله (ص) صاحب جوامع الكلم(1) قال :من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة . والسنة الحسنة هي تلك الكلمة .. الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها .

وذلك هو المعروف الذي يقود إلى خير الفرد وخير الأمة وعظمتها ومن ثم فان كل فرد عليه المسئولية ولديه الفرصة للمساهمة الفعلية في نهضة أمته ولا مجال للتملص أو التحلل من تلك المسئولية بالتعلل بشماعات : الدولة والنظام والحاكم المستبد الطاغية وهمه ..وهمه ..

وهكذا نخلص إلى أن

1- إن الصرح الشاهق لأمة عظيمة ما هو إلا نتاج مجموع التصرفات اليومية في الأمور البسيطة التي تصدر عن الأفراد وربما دون وعى أو إدراك في أغلب الأحيان، وان صلحت تلك التصرفات صلحت الأمة وكانت الأمة العظيمة . وان فسدت تلك التصرفات التي يستهان بها كانت الأمة المنحطة ..

2- إن كل فرد في أي موقع يساهم بقدر ما، من خلال تلك التصرفات، في عظمة أمته أو في انحطاطها . ومن يشارك في هذا المشروع، أي من لا يصلح من سلوكياته في أي من تلك المجالات ( عناصر الشخصية المستهدفة ) ومن لا يجاهد لإصلاح سلوكيات الآخرين بالكلمة الطيبة ، لا يحق له انتقاد الآخرين ولا يحق له الشكوى، بل ولا يحق له الدعاء، لأن :

ــــــــــ

(1) كلمات قليلة تحمل معاني كثيرة .

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "

وتفسير هذه الآية هو أن

إن أحوال الأفراد، والأمم، هي نتائج أو محصلة عدد كبير من العوامل، منها ما يتعلق بالفرد ذاته ويدخل في نطاق إمكانياته وسلطته، وهو قليل، ومنها ما لا طاقة له به .. فان أصلح الفرد ذلك القليل الذي يدخل في نطاق إمكانياته ، أصلح له الله ذلك الكثير الذي لا طاقة له به، وصلح له حاله .. والعكس صحيح، وهذا سواء بالنسبة للفرد أو بالنسبة للأمة

وان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .